الرافد/ زينه عبدي
يشهد العالم ثورة رقمية وتكنولوجية هائلة وغير مسبوقة، وأصبحت المعلومة تصل إلى الجمهور بسرعة فائقة، لكن هذه السرعة وسط فوضى المعلومات اللامتناهية قد أثرت على مصداقية ما يتم نقله. فقد بات الفضاء الرقمي بيئة خصبة للتضليل والتزييف، وأصبحت الأخبار الكاذبة والمضللة وكذلك الشائعات تنتشر أسرع من الحقيقة، الأمر الذي من شأنه فرض صحافة الدقة لدرجة أنها باتت حاجة ضرورية في الوقت الراهن وليست خياراً مهنياً، فالصحفي اليوم بات حارسا للحقيقة طارحا سؤاله غير المعتاد: كيف ننشر الخبر بالدقة وليس بالسرعة؟ وهنا تصبح صحافة الدقة الخيار الاستراتيجي لإبقاء الصحافة مؤثرة ومتجددة وحية تحفظ الدور الحقيقي كسلطة رابعة للدفع نحو الحقيقة وليس نحو التضليل والتزييف.
البعد الأخلاقي لصحافة الدقة
الصحافة في جوهرها قائمة على المسؤولية نحو نقل الحقيقة للجمهور بأمانة تامة. وفي زمن الصحافة الرقمية والأخبار المتسارعة ، باتت الأبعاد الأخلاقية هي السد المنيع الذي يمنع الدقة من الانهيار. فالدقة هي قيمة أخلاقية قبل أن تكون قيمة ومهارة مهنية أو إجراء تقني، بل هي قناعة نابعة من الداخل تؤكد أن الكلمة مسؤولية، لذلك واجب الصحفي أن يضع نصب عينيه الابتعاد عن كل ما يضلل الرأي العام كي لا يضر بسمعته وبسمعة الآخرين.
الأبعاد الأخلاقية تفرض على الصحفي مواجهة الضغوط سواءً من أطراف وتنظيمات سياسية أو جهات ممولة تدفعه لنقل معلومات بطرق ملتوية ومنحازة، ووضع المصالح العامة والحقيقة فوق أي اعتبار خاص أو مؤسسي.
من أهم ما يتميز به الإعلام الرقمي هو الإثارة والمبالغة في الطرح بغية الانتشار السريع والشاسع غير آبه بالعواقب نتيجة التضخيم والمعلومات غير المؤكدة، وهنا لا بد للبعد الأخلاقي لعب دوره الحقيقي في كبح جماح هكذا سلوكيات لتثبت أن الدقة والمصداقية هما التزامان أخلاقيان في مواجهة الضغوط والإغراءات.
عندما يكون الصحفي ملتزماً بأخلاقيات المهنة، من السهل عليه الاعتذار للجمهور حين ورود الخطأ، وهذا ما يعزز الثقة بينه وبين الجمهور، بل ويؤكد أن الصحافة مسؤولية وتستوجب دائماً الاعتراف بالأخطاء وتصحيحه للدفع نحو مسار مهني حقيقي ملتزم بالمعايير الأخلاقية قبل المهنية.
تصبح الدقة في الصحافة الإنسانية بصورة خاصة مسألة أخلاقية لا تقبل الانزلاق إلى فوضى الأخبار والشائعات حفاظاً على الكرامة الإنسانية قبل كل شيء. الدقة في سرد معاناة الناس وتصويرها ضرورة للتأكيد على احترام الإنسان قبل احترام ما سيكتب عنه من معلومات.
كلنا يعلم أننا بتنا في عصر الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة في ظل الانفجار الر قمي الهائل، وهنا لا بد للصحفي الالتزام بالبعد الأخلاقي، كأن يأخذ على عاتقه التحقق من الخبر قبل نشره والتعامل مع المعلومة كأولوية أخلاقية، الأمر الذي يمكننا أن نطلق على الصحافة الحصن أو الدرع الواقي ضد التزييف والتضليل.
ضعف الوعي الإعلامي بصحافة الدقة
تعتبر الدقة في العمل الصحفي إحدى أبرز القيم المهنية، لكن هشاشة الوعي بها يعد أحد أكبر المخاطر والتحديات في زمن الثورة والإعلام الرقمي، نسبة كبيرة من الجمهور تفتقر إلى الخلفية الثقافية حول وعي التعامل مع المعلومة المنشورة على المنصات الرقمية دون الاستفسار عن المصدر الحقيقي وموثوقيته، هونا يصبح الجمهور ذاته أداة لنشر الأخبار الكاذبة والمضللة عوضا أن يكون حصيناً منها.
يشهد الوسط الصحفي شرخاً واسعاً فيما يتعلق بالدقة، حيث بات التركيز على السبق الصحفي أكثر بدلاً من التحقق من المصدر، وهذا يؤدي بدوره إلى تقوية سوق الصحافة البديلة وفقدان الثقة بدلا من تجسير الهوة ورفع الثقة بين الإعلام وجمهوره، والانتشار الهائل للمعلومات غير الدقيقة على وسائل التواصل الاجتماعي.
يترك الإعلام الرقمي خطورة مضاعفة بضعف الوعي بالدقة، ف بعض الصحفيين يلهثون وراء نشر الخبر دون تحقق خوفاً من التأخير عن لحظة السبق الصحفي التي يعتقدونها إثباتاُ لهويتهم الصحفية. الخوارزميات تبتعد عن إيلاء الأهمية للمواضيع والأخبار الحقيقية والصادقة في محاولة لكسب المحتوى الأكثر إغراءً وإثارةً كما هو الحال بالنسبة للترند.
لهذا الضعف نتائج وعواقب ذات خطر بالغ متمثلاُ بانتشار الأخبار المضللة والزائفة وفقدان الثقة بالإعلام والتأثيرات السلبية على القضايا والقرارات المجتمعية، لهذا لا بد من معالجة ضعف الوعي الإعلامي بصحافة الدقة من خلال تعزيز وترسيخ التربية الإعلامية والتدريب المستمر للصحفيين لكسب مهارات التحقق رقمياً وأساليب مكافحة الأخبار الزائفة، ونشر ثقافة الدقة الإعلامية عبر التشبيك والتعاون بين المؤسسات الإعلامية والمنصات المتخصصة في مجال التحقق والتأكد، بالإضافة إلى حملات توعية للجمهور.
الفرص المتاحة
رغم العقبات التي تواجه صحافة الدقة في العصر الرقمي، إلا أنه بذات الوقت لا يزال يقدم وبشكل مستمر فرصاً غير مسبوقة لدعمها، مثل توفير البيانات المفتوحة(إحصاءات حكومية رسمية وتقارير لمنظمات دولية – قواعد بيانات – مستندات وملفات رسمة)، وأدوات لكشف التلاعب( التحقق الرقمي) لا سيما بالفيديوهات والصور، ومنصات خاصة للمقارنة بين المعلومات المنشورة والمصادر الحقيقية، وبرامج مختصة بالتحليل المعمق في المكان والزمان للمحتوى المنشور.
وبذات السياق، يمكن التعاون بين المؤسسات الإعلامية المتخصصة في التحقق ومنصات التواصل وكذلك شبكات صحفية عالمية للتحقق الجماعي لتبادل المعلومات ومكافحة الأخبار المضللة، ما يعزز الدقة المطلوبة ويخفف فرص نشر المحتوى الكاذب بأعلى المستويات.
عندما يزداد وعي الجمهور بصورة تدريجية، من الممكن اعتباره شريكاً حيا ومباشرا للصحفي في تعزيز وترسيخ قيم المصداقية والدقة، والضغط على المؤسسات الإعلامية لإنتاج محتوى دقيق ذات مصادر موثوقة. ولتعزيز المصداقية أيضاً يمكن للصحفيين التطوير مهنيا عبر تدريبات تمنحهم مهارات متقدمة وأدوات وتقنيات ليحافظوا من خلالها على الدقة في الإنتاج الصحفي.
ختاماً، في عصرٍ تنهال فيه علينا المعلومات والأخبار كالسيل الجارف وبسرعة غير مسبوقة، سواء حقيقية أو كاذبة، تبيت فيه صحافة الدقة مسؤولية أخلاقية أكثر من مجرد مهنة، ودعامة رئيسية لإبقاء الصحافة أداة للعلم والمعرفة والمعلومة لا أداة للتزييف والكذب والتضليل. إن مستقبل الإعلام لا ولن يقاس بسرعة النشر والانتشار، وإنما بثباته في مواجهة التضليل ليكون حصناً للحقيقة والمصداقية في مشهد يموج بالشائعات.
التحقق قبل السبق: صحافة الدقة بين أخلاقيات المهنة وفوضى الزيف
