زينه عبدي
لأكثر من عقد من الصراع والانقسام، تدخل سوريا اليوم مرحلة جديدة يُفترض أن تُبنى على أسس العدالة والمواطنة والدستور والقانون. مسار المرحلة الانتقالية ليس بالشكل الذي نتصوره، حيث سوريا ستكون على ما يرام من الناحية السياسية والثقافية والاجتماعية والدستورية والقانونية، بل بات هذا المسار منذ هروب النظام السابق في 8 ديسمبر 2024 أمام خطر جسيم لا يقل تهديدا عن ما يسمى ب”العنف المسلح”، وهو التصعيد المتزايد لخطاب الكراهية بين المكونات لا سيما على المستويين السياسي والاجتماعي، ما يعزز إعادة إنتاج مراحل متتالية من التشظي مهددا السلم الأهلي والتماسك المجتمعي مجددا. فكيف يؤثر هذا الخطاب على مسار الحل السياسي السوري؟ وكيف يُبنى مسار المصالحة الوطنية الجامعة في ظل التحريض والإقصاء والانقسام؟
الجذور العميقة
استُخدِم خطاب الكراهية بين المكونات السورية جميعها كأداة تعبئة ومورد مهم للفتنة الطائفية سياسيا وإعلاميا لا سيما من قبل السلطات منذ عقود وإلى الآن. تراكم هذا الخطاب لم يعد حالة طارئة فقط، بل صار جزءً مهما من رحلة الوعي المجتمعي العام. خطاب الكراهية لم يكن وليد اللحظة الحالية، بل منذ عقود طويلة تمت مأسسة وبلورة معمقة ل اللغة الإقصائية والقائمة على التهميش والانقسام في الخطابات الرسمية أحادية الجانب وتعزيزها داخل المجتمع والدولة، فإطار التعدد والاختلاف كان بنظرهم مهددا حقيقيا لبناء الدولة وتفكيك تماسكها لا كقيمة مضافة يستوجب القبول بها لأنها جزء لا يتجزأ لبناء أي سلم أهلي مستدام مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والأنظمة.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، انفجرت هذه القنبلة الموقوتة تحت مسمى المكبوت التاريخي السوري مستخدماً الخطاب الفئوي والقومي كأداة فعالة سياسيا سواء من سلطة دمشق أو من بعض الأطراف المعارضة لها، فكل منهما يشيطن الآخر وفق أجنداته وما تمليه عليهم مصالحهم الشخصية والمهنية في ظل ظروف الحرب وتشابك التداخلات الإقليمية والدولية.
هكذا صار الآخر انعكاسا لخطر يهدد الوعي السوري، ما كرَّس إعادة إنتاج الانشطارات على ركائز مناطقية وقومية، لتتشكل لدينا لغة يومية مشبعة بالكراهية صنعتها السياسة وكرسها الإعلام، الأمر الذي من شأنه خلق حالة طائفية مستميتة بين السوريين والسوريات.
الكراهية عدو للسلم الأهلي
حسب المتعارف عليه وبشكل حقيقي، فإن المرحلة الانتقالية بعد عقود من الحرب يفترض أن تكون مساحة لبناء الثقة من جديد بسبب أزمة الثقة المتجذرة في عقول الشعب السوري حتى باتت صراعا أبديا من الصعب الحد منه رغم العمل عليها من قبل نسبة كبيرة من المجتمع السوري، بل باتت هذه المهمة شبه مستحيلة بسبب الأرضية الخصبة للشكوك والفتن والعداء.
الكراهية في سوريا قتلت كل ما يمت للإنسانية والمواطنة والعدالة والتماسك بأية صلة، ما عززت وبقوة مسار اللاحوار وإضعاف قدرة السوري على التطلع للآخر ورؤيته كما لو أنه شريك على البقعة الجغرافية المسماة سوريا ضاربا البعد الهوياتي عرض الحائط محتميا بما يسمى بالفضاء الهوياتي الضيق، ما بلور فراغاً اجتماعيا شاسعاً مهيأ في أية لحظة الاشتعال والانتشار كالنار في الهشيم.
المشهد الرقمي
المنصات الرقمية تعج وبصورة غير مسبوقة بخطاب التراشق المتواصل والفتن الطائفية وتحريض مكون ضد الآخر المختلف عنه لا سيما هوياتيا ورأيا، ما أدى لتآكل تلك المساحات البيضاء في الحوار العام على مبدأ الثنائية القاتلة والمدمرة والمفعمة بالعداء اللامتناهي “أنا أو أنت” وبشكل خاص في السياق الانتقالي السوري. حين يتحول الخلاف إلى وصم اجتماعي مرورا بالهوية إلى التهمة إلى ذريعة للعداء والإقصاء والعنف ماديا كان أو رمزياً، هذا النموذج يضخم المسافة النفسية بين الجميع، ما يجعل فكرة السلم والتعايش سويا حلم إبليس بالجنة، لأنه لا سلم أهلي بدون قبول الآخر والاعتراف بوجوده، ولا مصالحة وطنية في ظل المساحات السوداء التي تعمق الفجوات بين أبنا وبنات الشعب الواحد.
تفكيك الخطاب
هل يمكن بناء سوريا الجديدة بعقلية النظام العفلقي والأسدي الزائلين؟ السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه بنفسه في ظل المرحلة الحساسة التي تمر بها سوريا حاليا بوصفها في وضعية العلاج. هذا ما يفرض علينا جميعا مواجهة خطابات الكراهية والعداء على كامل الجغرافيا السورية عبر منهجية واستراتيجية شاملة جامعة لا إقصائية تتشابك فيها الأبعاد قانونيا وإعلاميا وسياسيا ودستوريا. لا بد للإعلام لعب دوره المحوري في قيادة الرأي العام باتجاه التهدئة لا التحريض بوصفه أداة سيعيد بلورة الوعي الجمعي، والإحاطة بميثاق شرف للإعلاميين والمؤسسات الإعلامية والمحتوى الإعلامي وكافة المنصات الإعلامية بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي وضرورة إلزام الجميع بتطبيقه في محاولة لعدم نشر أي محتوى يدعو للكراهية والتمييز.
كما وينبغي سن تشريعات تجرم كل ما من شأنه زعزعة السلم الأهلي عبر التحريض المستمر على العداء والفتن الطائفية والكراهية المقيتة وكل أشكال العنف القائمة على أساس رأي سياسي أو العرق، وضمان كامل للحريات دون الإضرار والحفاظ على الأواصر على المستوى الفرد والمجتمع والمؤسسات. والعمل على تعزيز القيم التي تحترم التعدد وتقبله، وزرع مبادئ وأخلاق المواطنة الفاعلة الحقيقية لا سيما في المناهج التعليمية لكسر وتحطيم الصور النمطية التي فتكت بالنسيج المجتمعي. ويضاف إلى ذلك تقديم الدعم المتكامل للحملات والمبادرات الاجتماعية التي يقوم بها المجتمع المحلي والمنظمات المدنية لخلق فضاءات آمنة ومحفزة للحوار بين السوريين والسوريات وسرد المفاهيم الصحيحة حول الهوية والانتماء لبلورة علاقة تشاركية بمنأى عن أي تنافس.
وأخيراً، السلم الأهلي لن يتحقق أويعزَّز بالوقف النهائي لإطلاق النار والقصف المتبادل عسكريا، بل بوقف إطلاق خطاب الكراهية، وتكريس وعي يناسب الجميع وجعله معركة شرسة ذات طاقات إيجابية من شأنها إنهاء ما أفسدته الأنظمة السابقة والحرب السورية التي دامت أربعة عشر عاماً. نجاح المرحلة الانتقالية الحالية مرهون بشكل مباشر بقدرتنا على العمل سويا داخل الحلقة السورية-السورية لإعادة بناء وترميم جسر الثقة والاعتراف بالآخر المختلف بعيدا عن النفي. لن نحقق أية مصالحة وطنية أو مواطنة، ما لم تكن هناك مصالحة خطابية لغوية لأن الحرب العسكرية تنتهي لكن الكلمة تبقى خالدة وإلى الأبد بوصفها أخطر وأشرس سلاح في حرب السلام.










