بقلم / زينه عبدي
خلال الأيام الأخيرة، ونخص بالذكر مدينة السويداء السورية التي تقع جنوب البلاد، المدينة
الأكثر هدوءً من بين مدن الجنوب كما تبدو لنا، عادت إلى واجهة الحدث السوري ،ولكن هذه
المرة تحمل في طياتها عديد الأسئلة والاستفهامات التي لم تُجب عنها دمشق منذ ما يقارب العقد
ونيف: من له الحق الشرعي والقانوني للتمثيل في المركز أو السلطة الحاكمة؟ ومن يملك القرار
في كافة الأطراف؟ وكيف تُحكم وتدار مناطق متمسكة بهويتها وخصوصيتها محلياً داخل دولة
مثقلة بالحروب وتداخلات النفوذ الإقليمي والدولي؟.
المشهد
وفقاً للطرف الذي يقرأ المشهد، وبينما تلوَّح السويداء بمطلبها “الإدارة الذاتية أو المحلية”، باتت
تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال شرق سوريا مرآةً ومثالاً يحتذى به في مسألة
التفاوض، كما أن الولايات المتحدة يدها ممدودة داخل خيوط اللعبة، حيث توظف أمريكا ورقة
الكرد كإحدى أبرز الأوراق الضاغطة في مواجهة دمشق وأيضا موسكو وطهران، في حين
تُبقي الجنوب ورقة استثمار حين تستدعي التوازنات ذلك. وسط كل هذا التشابك، أحداث
السويداء ليست مجرد موجة غضب عابرة، بل وكما نشاهد تكشف عن ملامح اختبار صعب
لقدرة السلطة الحالية على إدارة ملف الأزمات الداخلية، وبالتالي احتواء ما أمكن من موجات
الغضب والرفض بمنأى عن خسارة المركز، وعن مدى تأثير الكرد كنموذج وحالة وكذلك عن
الحدود الممكنة للتدخل الأمريكي بعيداً عن شمال شرق سوريا.
ورقة مقارنة
رغم الحضور غير المباشر للكرد في السويداء حالياً بسبب الجغرافيا، إلا أن الاسم حاضر في
جميع النقاشات سياسياً، وكذلك في ترديد الشعارات التي تدعو للوحدة ونبذ العنف ضمن
الشارع. إذ يؤكد ناشطون وناشطات السويداء وبصورة جلية على نموذج الإدارة الذاتية في
مناطق شمال شرق سوريا بأنه الأكثر ديمقراطية ونجاحاً بعد انتزاعها، ولو جزءً بسيطاً، من
حكم الدولة المركزية فيما يخص الخدمات وإدارة المنطقة، خاصة بعد تراجع مستوى الخدمات
وغياب الاستجابة الكلية لاحتياجات الأهالي الأساسية على أقل تقدير من قبل سلطة دمشق.
وقد وردت في بعض البيانات الصادرة عن مشايخ وشباب السويداء خلال الأحداث الأخيرة
الدامية عبارات على هيئة مطالب فيما يتعلق بالإدارة المحلية بشكل حقيقي ونفوذ أوسع للمجتمع
المدني بما يمنحها استقلالية ضمن جغرافيتها التابعة للمركز، كل هذا يذكِّرنا بمطالب الكرد قبل
ما يقارب عقد من الزمن والتي تطورت لاحقاً لكيان يتمتع بالاستقلالية سياسياً ومدنياُ وإدارياً.
صحيح أن كلا السياقين(شمال شرق سوريا والسويداء) مختلفان كلياً بنيوياً وسياسياً، إلا أن
الحاجة الملحة هي من تحركهما لتثبيت حكم ذاتي في غياب الدولة المركزية، لحماية
خصوصيتهم الهوياتية والمجتمعية.
ولكن المقارنة بينهما تصطدم بتحديات جمة وحقيقية، فالإدارة الذاتية ولدت من رحم الأزمة
ضمن تحالف وتعاون دولي كبير ولديها موارد بشرية واقتصادية واسعة، بينما السويداء
محاصرة جغرافياً وتفتقر إلى الدعم والمساندة الخارجية سوى تل أبيب التي تدافع عنها بذريعة
الحفاظ على أمنها القومي كما تركيا وما تفعله في شمال شرق سوريا، ولكنها في الحقيقة تتدخل
لإرضاء الدروز في الداخل الإسرائيلي قبل العملية الانتخابية القادمة والقريبة كما هو معلن.
وخلافاً للطابع العابر للهويات في مناطق الإدارة الذاتية، فإن خطاب السويداء يغلب عليه الطابع
الطائفي، وهذا يقيد قدرتها على تجاوز أزماتها الداخلية ويضعف شرعيتها المتمثلة بالوطنية
الجامعة السورية.
تنظيمياً، تمتلك الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا مستوى عالٍ من الهياكل المدنية العسكرية
المنضبطة مثل قوات سوريا الديمقراطية والأساييش، لذلك فهي قادرة على تقديم الخدمات
بصورة فعالة كالإدارة الاقتصادية والرعاية الصحية والتعليم، بينما تعاني السويداء من فوضى
مرتبطة بغياب المؤسسات المدنية المنظمة لتكون بديلة وتملأ الفراغ في حال الانسحاب التام
للدولة المركزية، وانتشار نسبة كبيرة من الفصائل دون توافق. هذه المفارقات تضعف موقف
الدروز، لولا التدخل الناعم من إسرائيل والذي أنقذها من أنياب السلطة الحالية بنسبة جيدة، لذلك
يتطلب منها العمل لتصبح مشروعاً سياسياً قابلاً للتفاوض والبقاء كما الإدارة الذاتية في شمال
وشرق سوريا.
قوات سوريا الديمقراطية كانت ولا تزال تدعم السويداء ذات الطابع الدرزي الخاص وتطلعاتها
نحو إقامة إدارة محلية أو إقليمية مستقلة مشابهة لنموذجها في مناطق شمال وشرق سوريا، إلا
أنه وفي كل مرة تخرج أنقرة لتهيب بقسد عدم استغلالها الفوضى الحالية في السويداء بغية
تحقيق مكاسب ميدانية، في تحذير على مستوى خطر من تبعات ما ستؤول إليه عمليات العنف
والانفلات التي قد تقوض الاستقرار الإقليمي كله، وفي تأكيد من أنقرة أن قوات سوريا
الديمقراطية أو الإدارة الكردية لا يمكنها التمدد والتوسع، بل أنقرة في مساعٍ مستمرة للقضاء
على كل ما يخص الكرد في المنطقة وتقويض نفوذهم ما أمكن.
إقليمياً ودولياً
لا يُظهِر الجانب التركي حضوراً مباشراً ودعماً علنياً لأي طرف في السويداء، ولكنه يتدخل
ضمنيا بكل مجريات الأحداث في سوريا عموماً. في أحداث السويداء تلعب دوراً إقليمياً بارزاً
وفاعلاً ولكن بانتباه وحذر شديدين لتحقيق التوازن بين دورها في شمال شرق سوريا وكذلك
في الجنوب منها، لأن أي تصعيد أو تفكك في المناطق الجنوبية التي باتت فيها سيطرة السلطة
الحالية ضعيفة بنسبة كبيرة، وبالتالي خلط الأوراق في الداخل السوري بصورة عامة، يدخلها
تلقائياً في الحسابات الجيوسياسية. تحاول تركيا قدر المستطاع وبما تملكه من قوة سياسية
وعسكرية دعم سلطة الأمر الواقع في دمشق لإضعاف النفوذ الكردي في المناطق الكردية أو
في مناطق شمال شرق سوريا ذات الغالبية الكردية التي تعتبرها خطراً استراتيجياً، بحجة
الحفاظ على أمنها القومي على طول الشريط الحدودي.
وبالتالي، يمكن وصف الدور التركي ب”المراقب الاستراتيجي”، يتقاطع أحياناً مع المصالح
الإسرائيلية وأحايين أخرى مع المصالح الأمريكية التي تلعب دور الوسيط حالياً في تهدئة
المشهد الداخلي السوري، وكذلك في تحسين العلاقات السورية والإسرائيلية، لبلورة توازنات
تخدم مصالح الكل، لا سيما بعد سقوط الأسد، في المشهد السوري القادم داخلياً وخارجياً، مع
تمسكها الشديد بخيوط الملف السوري المعقدة من زوايا أمنية واستراتيجية، خاصة في الجنوب
السوري الذي ترى فيه واشنطن منطقة هشة ورخوة، وفي حال انفلتت الأمور من الممكن أن
تكون لصالح التنظيمات الإرهابية(داعش) أو الفصائل الإيرانية، فالموقف الأمريكي يتسم
بالغموض نوعاً ما في الكثير من المواقف رغم الدور الكبير الذي تلعبه واشنطن إقليمياً ودولياً
في بناء أكثر رسوخاً في الداخل السوري وخارجه، هذا الغموض يجعله مؤثراً بأساليب غير
مرئية وبصورة غير مباشرة ووساطات ناعمة ربما بعيداً عن الأضواء في بعض المواقف.
ومن جانب آخر، يبقى الدور الفرنسي محورياً في مشهد السويداء بهدوء دبلوماسي، ويؤثر في
اتجاهات الضغط الدولية لصياغة موقف جاد من ملف الجنوب السوري ولعب دور الوسيط
الفاعل والإيجابي لتقريب الأطراف السورية من بعضها.
أحداث السويداء كشفت هشاشة سلطة الأمر الواقع عبر الغياب التام لقدرتها في السيطرة على
الأحداث الدموية، مما أفقدتها الثقة بها، الأمر الذي شكل ذريعة قوية لتزاحم الأدوار الإقليمية
والدولية على مستقبل الجنوب السوري. وإلى اللحظة وبين غياب المشروع الوطني وكثرة
التدخلات، يبقى مصير منطقة الجبل معلقاً بين مطالب الأهالي وتجاذبات تتجاوز حدودها.