لا تزال الحالة الإبداعية تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة العملية الإبداعية، وما إذا كانت تتطلب انفصالا للمبدع عن الواقع المحيط به بدلا من انغماسه في تفاصيله، حيث يقيم المبدع لنفسه طقوسا خاصة أثناء عملية الإبداع، فالمبدع يستمع دائما إلى صوته الداخلي، إذ يعلو هذا الصوت في الكثير من الأحيان، ويطغى على كل ما عداه من الأصوات، مما يخلق حالة شعور لدى من حوله بأنه شارد أو ليس معهم في دائرة الحوار.
دراسات كثيرة في علم النفس ترى أن المبدع يخضع لسيطرة بعض القوى الغيبية التي تجعله يبدو للآخرين، وكأنه منعزل عن الواقع المحيط به، وهناك تفسيرات قديمة ربطت بين الفن والخرافة، أو الفن والأسطورة. وفي نفس الوقت، فإن الدراسات الحديثة في علم النفس، وهي تتخذ من مجال الإبداع مجالا واسعا للدراسة، أثبتت أن المبدع إنسان عادي، ولكنه يتميز بعدة ميزات أهمها: الخيال الخلَّاق والذاكرة الخصبة، ويستطيع أن يستشرف آفاقا بعيدة، إضافة إلى قدرته التعبيرية، فالمبدع يستطيع أن يعبر عمّا يحس به هو أو غيره من الناس مستخدما جماليات خاصة في التعبير تتجاوز المألوف.
وهو ما تؤكده الروائية سلوى بكر، قائلة “لكل مبدع طريقته الخاصة في التعامل مع الإبداع مثلما لكل إنسان طريقته في التعامل مع تفاصيل حياته المعيشة، بالنسبة إليّ ليس ثمة طقوس، ولا شيء غير عادي، هناك التخطيط وجمع المعلومات وبذل الجهد، والكثير الكثير من العمل على موضوع الكتابة خصوصا الروائية، وأعتقد أن المقصود بالطقس هو محاولة توفير جو نفسي ملائم للإبداع لمن يواجه صعوبة ما في التعامل مع موضوعه، وهذا لا يعني أن الشخص المبدع لا يكون مشغولا عن موضوعه بل هو مشغول به، ومثل هذا الوضع لا يكون مقصورا فقط على الأدباء فقط، بل يشمل جميع المبدعين في كافة المجالات“.
الحلم والواقع
من وجهة نظر سلوى بكر إنه دون انفصال المبدع عن تفاصيل الواقع المحيط به لا يكون هناك إبداع، فالأديب قد يكون شارد الذهن ظاهريا يركز تفكيره في اتجاه آخر، كمطلع لقصيدة جديدة، أو إحكام للموقف الدرامي في رواية، وذلك في الواقع ليس شرودا عما يدور حوله، كما تقول، بل قد يكون في حالة إمعان في التعامل مع الواقع.
وتضيف ”إن الشرود نوع من التأمل واختزال الكثير من المواقف، وتخيّل ما يمكن أن يكون، والمبدع بمثل هذا الشرود لا يهرب مطلقا من الواقع، ولكنه يحاول تحويل الواقع إلى حلم وتحويل الحلم إلى واقع، فالعملية الإبداعية كلها هروب إلى عالم الحلم الجميل، ومحاولة لاقتحام الواقع والاستمتاع به في حدود المشاعر الخاصة لكل إنسان، وما يسمى بالطقوس المصاحبة للإبداع ما هي إلا محاولة لتهيئة المناخ المناسب لتحقيق مثل هذا الحلم، وبالنسبة إليّ أؤكد على أن تجربتي الإبداعية لا تعرف مثل هذه الطقوس، اللهم إلا توفير الهدوء ومنح الوقت والجهد اللازمين للتفكير والتأمل ومن ثم الكتابة”.
ومن وجهة نظر أخرى يقول الروائي أحمد محمد عبده “لديَّ قناعة بأن الإبداع محنة للإنسان الذي يختص من دون الناس بهذا الهم، فالإبداع كعملية تشبه إلى حد كبير عملية استخلاص الجنين من رحم الأم، فتجد ثقل حمل المبدع للفكرة ومعاناة اختمارها في وجدانه التي هي فترة الحمل، طالت أم قصرت، ثم المخاض، ثم انفراط الوليد، إلا أنه في حالة الإبداع وليدنا لا يولد طفلا، بل هو كيان كامل متكامل وتام النضج والاستواء، ولذلك لا يبدع الكاتب بعقله العادي الذي يتحدث ويعيش مع الناس، تلك اللحظة الشبقية لها هوسها الخاص الذي يتلبس بالمبدع”.
أما في ما يتعلق بطقوس الكتابة، فيقول عبده ”اعتدت أن أكتب بالقلم الرصاص وأشرب الشاي، وأعتقد أن الكاتب إذا دخل بوتقة التجربة، فهو في غياب تام عن أي ترتيب أو فعل قصدي يُسمى طقسا، أما الفكرة فيمكن التقاطها من كلمة يقولها رجل في الشارع، أو من مشهد فأر يجري أمام قطة، أو ذكرى، أو لقطة، والفكرة شيء والمعالجة شيء آخر، وتلك هي محنة الكاتب لأن الإبداع لا يعرف حالة الوسط أو البين بين، فهو إما نزيف، وإما ماء آسن”.
وينفي الروائي مصطفى البلكي أن يكون له طقسه الخاص لحظة الإبداع فيقول “الكتابة فعل يوجد نفسه، ولا نسعى لنوجده، متى حضرتْ كنت معها، في أي مكان، أنفصل عن محيطي لأستسلم لها فتقودني حيث تريد، فالشخوص هم الذين يوجدون مصائرهم، لا تتاح لي الكتابة في أكثر من عمل، بل هو عمل وحيد أستغرق فيه، وأصبح مهموما به، أكتب في كل الحالات التي أعيشها، صحيح إن الكتابة التي تولد من رحم الحزن تكون قريبة من الأرواح، لكن تكون بنفس الدرجة أيضا في أوقات الهدوء”.
ويضيف “أنا لا أرتبط بأي وقت للكتابة، فقط يكون وجودي مرتبطا بما تود الحكاية أن تمنحه لي، فمن المفيد أن يبني كل واحد جنته، حسب ظروفه وقدرة المفردات التي في يده، لذلك تكون الصلة قوية بيني وبين الورق، فالكتابة مباشرة على الجهاز، أمر لم أتعود عليه، أشعر وكأني أمام حاجز، وأدخل في متاهة، أما مع الورق فهناك علاقة مباشرة، واتساع في الرؤية، فعلاقة الود تلك تخلق ألفة بيني وبين الشخوص، وبيني وبين العالم الذي أكتبه، وكل ما أكتبه كي أتخلص منه، فكل شيء له فائدة وله مكان سيسكنه”.
حوار مع النفس
ويعلق الدكتور مجدي عبدالوهاب، أستاذ علم النفس على طقوس المبدع أثناء عملية الإبداع قائلا “المبدع دائما في حالة حوار مع نفسه، وفي حالة تفكير وتأمل لما يدور حوله، والنتيجة المترتبة على هذا هي أنه لا يكون معنيا كثيرا بما يحدث ويتم خارج حدود فكره”.
ويشير إلى أن مثل هذا الوضع لا يكون مقصورا فقط على الأدباء فقط، بل يشمل جميع العباقرة والمخترعين. لكن في نفس الوقت، فإن عبدالوهاب يرفض أن يكون انفصال المبدع عن تفاصيل الواقع المحيط به شكلا من أشكال الشرود الذهني، أو حالة من حالات الهروب من الواقع.
ويؤكد عبدالوهاب أن “المبدع بهذا الانفصال عن التفاصيل المحيطة به في الواقع هو ليس شاردا عما يدور حوله، بل هو بمثل هذا الانفصال في حالة إمعان في التعامل مع الواقع وإعمال الفكر في هذا الواقع، لكن الهروب من الواقع هو شكل من أشكال السلبية، على عكس طبيعة المبدع، فهو دائما في حالة إيجابية لأنه يركز على تفاصيل الحياة اليومية بما فيها من مشوشات على فكره”.
فالمبدع، في رأيه، ينشد مجتمعا أفضل من جميع جوانبه فيدرس ما هو قائم ويقيمه، ويطالب بتغيير ما يرفضه الجميع، وليس ما يرفضه هو فقط، فدوره هنا إيجابي، أما المجنون فهو شخص مريض شارد الذهن في لا شيء، ولم نر من قبل أحد المرضى قد قدّم أعمالا أدبية، فالمريض لا يبدع عادة.