أمام انتفاء حظوظ المشروع السياسي الإسلامي الحديث، واستحالة ترجمة أحلام منظري التيار الاخواني في تجسيد طموح الدولة الإسلامية، وحتى فشل التنظيمات المسلحة، من أجل إرساء مشروع الدولة أو الخلافة الإسلامية، بات مصير الأحزاب الإسلامية أمام خيارات محدودة، تحيلها إلى الحضور المقزم في مجتمعاتها أو التنازل عن الممارسة السياسية، والعودة إلى المجتمع دون أجندة تذكر.
ولم يلغ الاختلاف في ظروف ميلاد تيار ومسار الإسلام السياسي في العالم العربي، المصير المحتوم الذي ينتظر الأحزاب السياسية في الذوبان ونهاية عصر البعبع، بسبب تبخر طموح المشروع الكبير، الذي نظر له كبار مؤسسي التيار في مصر وبعض البلدان العربية، حيث بات تقلص وعاء الإسلاميين لافتا ومؤشرا على نهاية الأحزاب الإسلامية الكبيرة.
وتمثل الانتكاسة التي مني بها إسلاميو الجزائر، في الانتخابات المحلية الأخيرة، مؤشرا قويا على بداية تقلص الهالة التي رافقت الإسلاميين خلال العقود الماضية، وعلى التقلص الكبير لوعائهم الانتخابي، لا سيما في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية المتسارعة في المجتمعات العربية.
إخوان الجزائر
لم يعد الناخب الجزائري، أو المناضل والمناصر للتيار الإسلامي، في تسعينات القرن الماضي، هو نفسه في الألفية الجديدة، فالمهم بالنسبة إليه هو الملموس الذي يجده في الحياة اليومية، وليس في الجري وراء مشروع بات مثيرا للجدل والقلاقل، ونتجت عنه حالة عدم استقرار في البلاد وفي المنطقة عموما.
وصدحت أصوات من عمق التيار الإخواني بالجزائر في الآونة الأخيرة بضرورة مراجعة مشروع الإسلام السياسي، بعدما باء بالفشل حتى في مركز التيار الإخواني بجمهورية مصر، وهشاشة التجربة التي رافقت شرعنة أحزاب إسلامية، في دول ما يعرف بالربيع العربي.
وكتب ناشطون من حركة مجتمع السلم الجزائرية، أن “قيادات الحركة والفاعلين في التيار الإسلامي، أكدوا على ضرورة مراجعة المشروع، في ظل الفشل الشامل للتجارب التي خاضتها الأحزاب الإسلامية في دول المنطقة، على غرار تونس ومصر والمغرب”.
وشدد هؤلاء على أن “مكان الإسلاميين في المجتمع وليس في الممارسة السياسية والحياة الحزبية، لأن عقودا من التجربة والنضال لم تفض إلا إلى فشل ذريع، في ظل التقلص المريب للوعاء الإسلامي، الذي لم يعد بإمكانه منافسة الأحزاب السياسية الكبرى، بعدما كان إلى سنوات قليلة محل مغازلة ومساومة”.
وتشير تلك الدعوات إلى تيار داخل معسكر الإخوان يريد العودة إلى العمل “الخيري والدعوي”، الذي بدأ به مشواره، لكنها لم تشر إلى تكرار نفس التجربة في العقود القادمة، أم تطليق العمل السياسي تماما، كما هو معمول به لدى التيار السلفي، الذي يهتم بالجوانب العقائدية ولا يولي الجانب السياسي اهتماما.
ويرى مراقبون أن تجربة الأحزاب الإسلامية، التي عاشتها بعض دول الربيع العربي، وتبخر أحلام الموالين لهم في الاستقواء بهم في المستقبل، توحي إلى اندثار مشروع الدولة أو الخلافة، تحت وطأة الهزائم السياسية، أو الحرب على الإرهاب، وتؤشر على تقزيم الأحزاب الإسلامية الشرعية، وذوبانها في مجتمعاتها.
ويضيف هؤلاء أن “تجارب المهادنة لتفادي الصدام مع الحكومات، أو الانخراط في لعبة التغيير من الداخل، وفشل تجربة الإخوان في مصر، صنعت مواقع محدودة لهم في كل من تونس والمغرب والجزائر، فنهاية المشروع الكبير ولد مشاريع صغيرة ترتبط بالأشخاص والمصالح الضيقة”.
وإذ يرى المحلل السياسي والخبير الاستراتيجي إسماعيل معراف، أن “الإسلاميين الحقيقيين في الجزائر، هم الجبهة الإسلامية للإنقاذ فقط “، في إشارة إلى الأحزاب الإسلامية، التي ولدت في فترة التسعينات من عباءة الإسلام السياسي، لتقزيم تغلغل جبهة الإنقاذ، فإن تناسل التيار في السنوات الأخيرة يوحي إلى دخول مبكر لمرحلة المشاريع الصغرى، بعد اندثار المشروع الكبير، في إقامة الدولة أو الخلافة الإسلامية.
أفول الإسلام السياسي
شهدت الجزائر في السنوات الأخيرة ميلاد الكثير من الأحزاب السياسية من رحم الأحزاب التاريخية للتيار الإسلامي، بسبب خلافات وطموحات شخصية ومصالح ضيقة لقياداتها، ويمثل دخولها خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، في شكل تحالفات، الأزمة الحقيقية التي يعيشها تيار الإسلام السياسي، واستحالة الذوبان في عباءة واحدة.
واللافت في المسألة، هو أن سقوط مركز الإسلام السياسي في مصر، واندحار نفوذ الإسلام المسلح في العراق وسوريا وشمال أفريقيا، بعدما صنع إجماعا دوليا على ضرورة محاربة التطرف الديني والإرهاب والعنف المسلح، ألقى منذ سنوات بظلاله على المشهد السياسي الإسلامي في دول المنطقة، على غرار تونس والمغرب والجزائر.ولم تعد مؤتمرات وندوات الأحزاب الإسلامية، تروج للخطاب التاريخي لها، في إقامة الدولة الإسلامية وإلغاء الحدود وتوسيع التجربة، وتحول تحت ضغط المصير المحتوم إلى صراعات أجنحة وتيارات وأشخاص، تبحث عن صدارة المشهد، والاستفادة من مزايا اللعبة السياسية
فالتجربة التي تستنبط من مؤتمر حزب العدالة والتنمية المغربي، وصراعات عبدالإله بن كيران، من أجل البقاء في الواجهة، والصراعات الخفية في حركة النهضة التونسية، والشتات الذي يعرفه الإسلاميون في الجزائر، تمهد لأفول نجم الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي.
ويرى محللون سياسيون أن مصير الأحزاب الإسلامية بالمنطقة، خلال السنوات القادمة، سيكون تحت خيارات محدودة، فإما القبول بلعبة المشهد الداخلي، بعيدا عن القضايا الدينية والعقائدية، وإما الذوبان التام، وفق دعوات الانسحاب من المشهد، وبشكل أقل الذهاب إلى صدام جديد، مستبعد حدوثه في الظروف الراهنة، نظرا لانتباه الإسلاميين إلى فشل الانجرار إلى تجربة العنف، لأنه سيستأصلهم من الساحة تماما.
ومع ذلك يبقى لموقف السلط القطرية الحاكمة في العالم العربي، دور في مصير ومستقبل الإسلام السياسي في بلدانها، في ظل تضارب المواقف والتصورات من نظام لآخر، فالموقف في مصر يختلف عما هو في تونس أو الجزائر، بالنظر لما يراه النظامان التونسي والجزائري، حاجة للإسلاميين المعتدلين في إثراء المشهد السياسي، وتوظيفهم في ضرب التيارات الدينية المتطرفة.
وكان إخوان الجزائر قد أدوا دورا مهما في حلحلة بعبع جبهة الإنقاذ، وشاركوا السلطة التي انبثقت عن توقيف المسار الانتخابي في مطلع التسعينات، في إعادة الشرعية السياسية للمؤسسات المنحلة، حيث شارك مؤسس حركة مجتمع السلم محفوظ نحناح في الانتخابات الرئاسية التي جرت في منتصف التسعينات، وأفضت آنذاك لانتخاب مرشح العسكر اليامين زروال رئيسا للدولة.
ويرى مراقبون أن السلطة الحاكمة في الجزائر “يهمها كثيرا أن تأتي إدانة الارهاب والعنف الإسلامي المسلح، بالدرجة الأولى من أحزاب إسلامية، ولذلك تعمل على مرافقتها والحفاظ على وجودها، في حدود معينة لا تزعج مشاريعها أو تجهض المخططات التي تضعها في ملفات على صلة بالتجاذبات المتصلة بالأبعاد الدينية والعقائدية”.
وهو التصور الذي تتبناه بعض حكومات المنطقة، المهتمة بضرورة استثمار الظروف المحيطة بتقلص نفوذ الإسلاميين في المشهد السياسي الداخلي، وتراجع امتدادها الشعبي، لتأخذ حجما صغيرا، يكون شكليا أكثر مما يؤثر في مساراته الداخلية والإقليمية.