كشف الهجوم الدموي على متصوفة مسجد الروضة بالعريش في شمال سيناء وراح ضحيته 309 أشخاص وإصابة نحو مئة أثناء صلاة الجمعة 24 نوفمبر، عن لاعب رئيسي تاريخي يخشاه التطرف والإرهاب أكثر من كل هؤلاء، وهو الصوفيون.
التنظيم الذي بدأ عام 2010 بمغامرة أبي بكر البغدادي عبر تفجيراته في قلب بغداد ثأرا لمقتل رفيقه أبي عمر البغدادي ومساعده، ينتهي بتفجيرات وقتل عشوائي وذئاب منفردة في مختلف بلاد العالم.
الإصدار الذي أطلقه تنظيم “ولاية سيناء” نهاية العام الماضي بعنوان “نور الشريعة” تحدث عن نسف الأضرحة والمقامات والقبض على أبناء التيار الصوفي ومنعهم من مباشرة أورادهم وأذكارهم الجماعية بشكل متكرر.
التطور الأخير في سيناء يحمل عدة تفسيرات، منها كونه أتى نتيجة انشقاق داخل داعش على خلفية الصراع بين البنعلية والحازمية بالنظر إلى أن التيار الحازمي لا يعذر عوام الفرق المخالفة بالجهل.
وربما سيطر على التنظيم أخيرا قادة أجانب بعد مقتل قادة الصف الأول للتنظيم من المصريين ممن كانوا يحرصون على عدم الاعتداء على أبناء قبائلهم رعاية للقرابة.
المتغيرات داخل داعش واستقبال تنظيم ولاية سيناء لقادة فارين من سوريا والعراق، علاوة على التنافس مع القاعدة والرغبة في تأسيس خلافة بديلة، وسعي التنظيم لفرض سلطة الأمر الواقع في شمال سيناء، جميعها عوامل تؤشر على أنه لم تعد هناك أماكن خارج نطاق استهداف داعش.
من المفترض أن تولد ممارسات السلفية الجهادية الغضب الشعبي، بسبب هتك حرمة الإنسان وحرياته وبسبب تشويه الدين والمعتقد، ومن الطبيعي أن يضمحل داعش بتصوراته السوداء ليظل فقط كحالة أمنية
الأهم من انهيار نموذج داعش أمام العامة هو عثورهم في فورة ضيقهم على النموذج وعلى الوجهة، التي ليست تلقاء مع رجال الدين ممن اتضحت محدودية قدراتهم على إنتاج البديل، كما أنها ليست تلقاء نسخ من الإسلام السياسي مختفية بتصورات ومناهج داعشية تحت عناوين أحزاب سياسية.
تاريخيا وجد التياران الرئيسيان؛ الأصولي العنيف، والآخر الصوفي الروحاني، وطارد الأول الثاني وقتل مفكريه وفلاسفته، وما يجري هو مواصلة للصراع المصيري لأن انتصار الصوفية هو انتصار للإسلام على مختطفيه وساجنيه بزنزانة الجمود الفكري والتحجر العقائدي.
حديثا لعب الإسلام السياسي بزعامة الإخوان دورا في ترجيح كفة الأصولية المتشددة في الصراع لحسابات سياسية، فعمد إلى خلق جبهة متزمتة. ويشي الصراع القائم ببعث الفكرة العقلانية التقدمية من تحت الركام، والمرشح للانتصار لها على مدى منظور هو الجمهور الذي أريد تغييبه.
فرق الأصوليون الراديكاليون أتباع الأديان رغم وحدة منبعها وأدخلوا المسلمين في صراع مع العالم كله، وحولوا علاقة التكامل إلى تهديد وثأر وتكبير أثناء قطع الرؤوس.
في حين لا تقف الصوفية عند الاختلافات التي تفرضها شرائع الأديان، بل تتجاوزها إلى البحث عن الحقيقة، ولا تنظر إليها بوصفها نهاية المطاف من الدين والتدين بل هي “مجرد وسائل لاستلهام الينابيع البعيدة للإيمان دون أن يعني ذلك التنصل من فروض وأحكام تلك الشرائع”.
وتنادي الصوفية بالقيم العليا النبيلة التي يحتاج إليها الناس في كل عصر ومكان، مثل المحبة والتسامح، والتي تصلح أن تكون الرابط القوي والقادر على الصمود بين أتباع الديانات والثقافات والحضارات.
دولة الصوفية هي دولة افتراضية تحكم بالمحبة والترفع، لا دولة الإكراه والسيف والقصاص، ومن ثم فلا يملك القدرة على تقريب المختلفين في العقائد والمذاهب غير التصوف. من وراء الصوفية يستهدف داعش الإسلام الشعبي العام لأنه يمثل الخطر الأكبر عليه، بالنظر إلى أن مجال نشاطهما واحد.
ولو ترك التنظيم من يحتجزهم بالقهر والإكراه من البسطاء وأنصاف المتعلمين أحرارا لعادوا لصوفيتهم المعبرة عن فهمهم الفطري للدين.
مشاهد الفرحة التي تغمر البسطاء في مدن سوريا والعراق بعد إجبار التنظيم على الرحيل عنها، تنطوي على الهاجس الأكبر الذي يؤرق داعش، فهو لا يخشى الجيوش ولا الأجهزة الأمنية بقدر خوفه من طوفان الرفض الشعبي لممارساته.
فما الظن إذا عكف الملايين على النموذج الإسلامي الصوفي العقلاني الذي يملك تفكيك ونسف مقولات التنظيم؟
وتنحصر مساحة تجنيد داعش في نطاق البسطاء ممن لا يفرقون بين التأويل الأصولي والدين فكلاهما عندهم واحد، وإذا لم يخدمهم الحظ بالنشأة في أسرة سليمة الفطرة وبيئة خالية من محفزات الطائفية، فهم عرضة للاستقطاب الداعشي.
وبالرغم من عدم اشتهار أقطاب التصوف في التعليم والإعلام أمثال ابن سينا والتوحيدي والفارابي وابن رشد، مقابل اشتهار ابن تيمية والمودودي وقطب، فالملايين من المصريين الذين تفصلهم عن التصورات الفلسفية والرؤى الصوفية أزمان بعيدة، رافضون بالفطرة السوية للأصولية المتحجرة ويمارسون حياتهم وفق الذوق الصوفي والتأويل العقلاني للدين.
ليست فصائل السلفية الجهادية فحسب بل الأصوليون على مختلف مشاربهم من سلفية علمية وحركية وإسلام سياسي وجهادي، جميعهم ينظرون إلى هذا الإسلام الذي تعبر عنه الصوفية كعدو أول، لأنه لا يحتاج لكي يسود ليزيح تماما تلك النسخ المشوهة سوى إلى فضاء مفتوح دون قهر أو إكراه.
وتركزت حملات تشويه التيار السلفي للصوفية على إظهار بعض الممارسات الفردية التي تقع في الموالد، هروبا من جوهر القضايا التي تتوج الصوفية كزعامة إسلامية مؤهلة لحل مختلف الإشكاليات التي عجزت عنها العديد من المؤسسات والتيارات.
الكراهية لأي شخص لدى الصوفية مرفوضة بالمطلق فهم رسل محبة وسلام. وتؤمن الصوفية بخلاصة فلسفة الإسلام في الاعتقاد والتدين، فهو سلوك فردي دون وصاية أو وسيط، وليس لأحد إجبار آخر على اعتناق ما يعتنق، ولدى الصوفية الاعتقاد المشهور القائل بأن “الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق”.
يبحث الصوفيون عن معراجهم إلى الله بمعالجة جوهر الدين من صبر وإخلاص وتوكل وزهد وإيثار وعطاء، أما الأصوليون فيتوسلون بشتى الطرق للوصول إلى السلطة.
جماعات الإسلام السياسي غارقة في استعلاء وأنانية مفرطة وشره في التملك، والصوفية يكفيهم الحب للناس جميعا ليشعروا بالغبطة والامتنان.
الوظيفة السياسية للصوفية نهوض بدور المصلح بين الناس والتوفيق بين المتخاصمين، بينما الإرهاب التكفيري يصنع الفتن ويزرع الانقسامات.
لذا يدرك داعش وطيف الإسلام السياسي بأن الخطر الفعلي الذي يتهددهما هو الصوفية التي لديها الحل العملي دون مطامع؛ فهي تأخذ من الدين جوهره وغاياته تاركة قشوره وتأخذ من الحداثة جوهرها تاركة شططها وانحرافاتها.
ويصعب على أي مؤسسة دينية معاكسة مسار الأصولية كما تفعل الصوفية، فالمؤسسة الدينية تسعى هي الأخرى لتصبح سلطة شاملة ومهيمنة في كل المجالات. تأسيس داعش لدولة لم يكن نابعا من مقدرة ذاتية بل بالدرجة الأولى من هشاشة نظام الدولة ومن توفر شريحة سنية قدمت له العون كرد معنوي للهيمنة الشيعية والعلوية السلطوية في بغداد ودمشق.
ولا تؤسس الدول بالتفجيرات وإطلاق النار والذبح وإعلان الحرب على الجميع، فالدول ليست مجرد مساحات جغرافية وبعض الأسلحة، بل امتداد ثقافي وحضاري وتاريخي وميراث قيمي وتفاعل اجتماعي.
تعود مختلف الفصائل إلى تكتيكات التنظيمات المعتادة، بعد الفشل في تجربة الدولة وهذا ينطبق على داعش والإخوان، مستهدفة البيئات الشعبية التي ترى في حضورها والالتفاف الشعبي حولها ما يهدد وجودها بالكامل ويجعل عودتها محل شك.