يراود بعض الكتّاب المبتدئين والقراء الهواة، الخلط المفاهيمي بين ما هو لغوي مجرد أو اصطلاحي بين كتاب السيرة أو كتاب المذكرات المطبوع، بين تفاصيل المذكرات الشخصية بتواريخها وأمكنتها، أو تفاصيل السيرة البطولية لرجل ما عبر التاريخ.
تقترن غالبا كتابة المذكرات بالمشاهير من الأدباء العظماء والعباقرة الأفذاذ الذين تركوا أثرا ما في الحياة الأدبية عبر تاريخ حياتهم، وكذلك في كتب الفنانين وجنرالات الحروب والسياسيين والوزراء والأطباء والمخترعين وغيرهم. كما جرت العادة على أن تقترن دفاتر وكراريس السير والدفاتر السرية على آخرين بعيدين عن الكتابة الأدبية، حيث يقوم بكتابتها الشخص بنفسه أو بالنيابة عنه مثل الزوجة أو الابن أو البنت الوارثة لعظمة رجل أو امرأة ما.
إلا أن العرب الأوائل عرفوا نوعا من كتب السيرة كجنس لأدب مستقل وأصيل من صلب تراثهم الأدبي المحفوظ، إذ درجت العادة على كتابة سيَر الأولين نثرا صافيا، ينقل بأمانة تاريخ الأفراد والجماعات. عن بطولاتهم وتقواهم أو مجونهم وفرادتهم في شأن ما. حيث تتخلل السير العربية الجاهلية والإسلامية الملاحقة لتاريخ الأفراد الذين يتركون آثارهم في البلدان التي عاشوا فيها دهورا من الزمن، بلغة مترعة بالبلاغة والحكمة والتوظيف المحكم لأدوات الحكايات الشيقة عن سير الأوليين.
فيما تقف كتب المذكرات في الطرف الآخر من الحضارة الغربية، باشتغالات جاذبة ومثيرة وجريئة للقارئ في متونها، إذ تعتمد كشف الأسرار العميقة، على التتبع السيري بالتواريخ للمشاهير، وعادة ما يكتبها أصحابها بعد تقدم العمر. يتناولون فيها كل ما جرى لهم من دون خوف أو خشية وبوصف دقيق عما حصل لهم. يكتب الجنرال شوارسكوف مذكراته قائد الحملة العسكرية لحرب الخليج الثانية 1991، كما سميت في حينها. مذكرات مثقلة بالتفاصيل والجزئيات الكثيرة والأسرار العميقة والتي تعدّ خرقا للمهمة العسكرية، حتى بعد الانتهاء منها وتحقيق أهدافها كاملة، في تلك اللحظة ترفع الحظر عن الأسرار الحربية بعد انتفاء الحاجة من الكتمان.
استطاعت إحدى ممثلات الأفلام الإباحية وبعد تقاعدها من المهنة، أن تكتب مذكراتها وتجمعها في كتاب، تحدثت فيه عن أسرار حياتها داخل أستوديوهات التصوير وعلاقاتها بالممثلين الذكور والإناث، وعلاقتها بشركة الإنتاج العالمية، وعلاقتها من جانب آخر بأسرتها وحرصها التام على الوفاء والإخلاص في العمل مع الوفاء للعائلة. هذا الكتاب المثير يحصد في حين صدوره أكثر المبيعات الكتب الأدبية من قبل شرائح نهمة من القراء، ليتعرفوا على مذكرات هذه الممثلة، حيث تلقفتها إحدى دور النشر الممتازة والتي تعرف بالضبط حساسية سوق الكتاب.
ومثلما يكتب السفير الدائم بعد احتلال العراق 2003 بول برايمر كتابه الشهير”سنتي في العراق” ليسرد بطريقة محكمة في مذكراته الشخصية كل شاردة وواردة عن تلك السنة التي عاشها في العراق كحاكم له، بل يكشف تفاصيل الحياة السياسية ما بعد الاحتلال. لكن الرجل لا يجيد الكتابة الأدبية كسياسي، فقد استعان بأحد أمهر كتاب الصحافة الثقافية في أميركا، وبعد الاتفاق يسلّم برايمر أشرطة الصوت عن تلك السنة ويودعها عند الرجل الصحافي لينجز كتابا مهما ككتاب مذكرات شخصية لحقبة مهمة منا تاريخ بلد تتصدر أخباره معظم نشرات الأخبار العالمية في تلك الفترة.
لقد بيع من الكتاب أكثر من مئة ألف نسخة وترجم لأكثر من لغة ومنها طبعا اللغة العربية. بينما تختلف كتب المذكرات العربية بتحفظ كتابها على بعض الأسرار التي تعتبر من المحظورات إلا ما ندر منها، بعكس كتاب المذكرات الغربيين الذين يشرعون في فتح خزانات الأسرار بكل تفاصيلها من دون تحفظ.
تلك هي الصفة العصرية لكتب المذكرات وقد اختلفت عن طبيعتها الإنسانية الأولى عندما طالعتنا كتب المذكرات الغربيين للرسامين وطباخي الرؤساء وزوجاتهم السرية. كتب المذكرات بنسخها الحالية تعد من أهم الكتب التي تشهد رواجا واسعا في سوق الكتاب العالمي والعربي، بينما تتراجع كتب السيرة الذاتية الأصلية أو المحققة منها. السيرة الذاتية كانت شائعة في زمان مضى وهي صالحة في يومنا هذا للدرس العلمي أو الأطاريح الجامعية وابتعدت عن المهمة الإنسانية الأولى.