كان اليوم هو الخميس والساعة قد قاربت منتصف الليل، ولكن الشوارع لاتزال مكتظة بالسيارات والحركة. كان هناك اناس عائدون الى منازلهم بعد امسية عشاء مع الاقارب والاصدقاء، وآخرون ليلهم على وشك ان يبتدئ.
في نادي ابراهيم باشا، الذي اعيد افتتاحه حديثاً، كانت الحفلة في اولها، والمغنية السورية ذات الشعر الاشقر المنساب حتى خصرها والكعب الدقيق العالي تطربهم بأحدث الاغاني العربية الرائجة يصاحبها موسيقي عراقي موهوب يناوب العزف على الساكسفون تارة والبيانو تارة وعلى العود تارة اخرى. وحين انتقلت الى الاغاني العراقية القديمة المحببة نهض معظم الرجال الحاضرين عن طاولاتهم واندمجوا معاً في رقصة الدبكة على النمط العربي التقليدي الذي يتضمن ضربات ايقاعية موحدة بالاقدام على الارض.
بعد خمس عشرة سنة من احتلال العراق بقيادة اميركا، تلك السنوات التي اوقعت البلد فريسة لدوامات التمرد والارهاب والخلل الوظيفي والحرب، هاهي بغداد تفيق وتستعيد شيئاً من نبض حياتها الاول.
حركة التمرد لا تزال منها بقايا شرر تحت الرماد، والخلل الوظيفي يطالع الناس انى نظروا، والعراقيون الغاضبون من عجز الجهات المسؤولة عن توفير احتياجاتهم الاساسية مثل الكهرباء والماء قضوا الصيف في التظاهر والاحتجاج في انحاء عديدة من البلد. لاشك ان التعلل بالامل في انتظار مستقبل اكثر اشراقاً عسير في مدينة انهكت اهلها حروب سحقتها المرة تلو المرة في الماضي.
بيد ان بغداد، ولاول مرة على قدر ما يمكن ان تمتد بالمرء الذاكرة، ليست في حالة حرب. قد تحدث بعض التفجيرات هنا او هناك، وحوادث الاختطاف لا تزال تمثل مشكلة، ولكن التفجيرات الانتحارية الشرسة التي عطلت الحياة قد انقشعت اخيراً منذ الهزيمة التي تلقاها ارهابيو «داعش» في السنة الماضية، وعادت المدينة تتنشق انفاس الحياة بشيء من الاسترخاء.
من ناحية اخرى ساعد تخفيف بعض القيود من جانب البرلمان في السنة الماضية على ازدهار اجواء الترويح والتسلية وازدادت المقاهي والنوادي واماكن التسلية انتشاراً، في كل مكان ترى اسواقاً ضخمة ومولات فيها دور للسينما تعرض احدث الافلام. على امتداد ضفة النهر تنتظم المطاعم وعلى خشبات المسارح تعرض المسرحيات وفي المقاهي تعقد ليالي الكوميديا.
في ايام الجمعة يلتقي الشعراء والفنانون لاستعراض اعمالهم في الحدائق التي يعود عهدها الى الحقبة العثمانية المحيطة بشارع المتنبي الذي اخذ اسمه عن شاعر عراقي مشهور عاش في القرن العاشر حين كانت بغداد قبلة العالم المتمدن.
يقول العراقيون: ان الطريق امام بغداد لا يزال طويلاً إن كانت تريد فعلاً استعادة امجادها السالفة كعاصمة للثقافة ورغد العيش، رغم هذا ثمة اجماع واسع على ان بغداد لم تنعم بالحرية والمرح اللذين تنعم بهما اليوم على مدى 40 عاماً مضت، اي منذ ان قبض صدام حسين على زمام السلطة المطلقة ثم ساق العراق الى سلسلة من الحروب المدمرة.
يقول المخرج المسرحي علاء قحطان من مجلسه في مقهى «قهوة وكتاب»، وهو مقهى جديد في بغداد معظم زبائنه من اهل الفكر والادب: «لقد خلص العراقيون جميعاً الى نتيجة مفادها ان على المرء ان ينال اقصى قدر من البهجة قبل موته.»
يقول علاء :ان توقف التفجيرات ليس السبب الوحيد وراء هذا الاحساس الجديد بالحرية. فالاحزاب السياسية التي تملك اجنحة مسلحة، تلك التي ارتقت الى ارفع المواقع بعد غزو العراق في 2003، قد اكتسبت مزيداً من القوة اليوم وحققت نجاحاً كبيراً في انتخابات الربيع الماضي، ومعنى هذا انها سيكون لها دور في ظل اي حكومة تنبثق مستقبلاً. هذا الصعود الكبير ابعدها عن التدخل في دقائق حياة الناس كما كانت تفعل في الماضي بقصد إثبات سلطتها.
يمضي علاء قائلاً: «لقد القت الاحزاب بتلك الامور وراء ظهرها في خضم تطلعها الى تولي دور اكبر ولم تعد تعبأ بأمر مأكلك وملبسك، لذلك اشعر بمزيد من الحرية في مسرحي وسلوكي العام في حياتي.»
بعد ذلك قص علينا كيف ان مشهداً في احدى مسرحياته تظهر فيه امرأة ترقص وهي تغطي وجهها بالنقاب تسبب في استدعائه من قبل هيئة حكومية لتبرير الموقف قلقاً منهم ان يكون المقصود منه اهانة الاسلام. ولكن القضية ضده اسقطت بمجرد ان اوضح لهم انه لم يقصد سوى التعليق على منظور تحويل المرأة الى شيء بلا احساس او قيمة.
بيد ان ما من ضمان يكفل استمرار الحال على هذا المنوال، كما يقول القاص احمد السعداوي الذي كان يجلس الى طاولة قريبة يناقش شكل غلاف الطبعة الجديدة من روايته «فرانكنشتاين في بغداد» التي تدور احداثها ابان ذروة حمى القتل الطائفي قبل عقد من الزمن حين كان لهب الكراهية والالم يصهر بغداد. تلك الرواية احتلت مكانها ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العالمية للرجال.
يقول السعداوي: «الامر كله مرهون بيد السياسيين الذين خيبوا آمالنا مرة بعد مرة، ولكننا نأمل انهم قد تعلموا درساً من المآسي التي وقعت، إذ ما عادت بالسنة او الشيعة او الكرد طاقة على تحمل صراعات جديدة.»
يرجع السعداوي الفضل الى العراقيين العاديين في تجدد الولع بحب الحياة. يقول ان الموجة الطائفية العارمة التي اعقبت غزو العراق في 2003، حين لاذ السنة والشيعة كل بهويته الطائفية، كانت مجرد خطوة زلت عن الطريق، بيد ان العراقيين سرعان ما عادوا الى هويتهم الحقيقية. ثم يمضي مستطرداً: «هناك شيء في الشخصية العراقية يمتد اصله الى آلاف السنين، حيث يشهد المؤرخون بأن العراقيين هم الذين ابتكروا المشروبات المسكرة منذ قرابة 7000 سنة، ومعنى هذا ان حب البهجة مغروس في الثقافة العراقية وان العراقيين اهل بهجة ومرح.»
كثير من النساء يشعرن ايضاً بحسنات هذه البيئة الاكثر تحرراً. ففي وقت مبكر من تلك الليلة، وفي مطعم للشاورمة يقع في احد الاحياء الراقية من بغداد، تغني مطربة عراقية لجمع اغلبه من النساء، بعضهن يغطين شعورهن وبعضهن حاسرات، وبعضهن شكلن حلقات من النساء فقط. على ايقاع الاغاني تنقر تلك النساء الارض باقدامهن ويتمايلن وتبدو عليهن الرغبة في الرقص وإن لم يفعلن.
معظم العراقيين لا يتناولون المسكرات، لذلك اصبحت المقاهي هي الوجهة الاجتماعية الوحيدة التي يمكن للعوائل الجلوس فيها برجالها ونسائها. تقول مريم سلطان، وهي تعمل في مختبر وتحمل شهادة ماجستير في الكيمياء الطبية، ان العوائل كانت تمنع بناتها من الخروج لوحدهن نظراً للمخاطر التي يموج بها الشارع. في حين انها الان تحضر مع جماعة من صديقاتها الى مقهى الفيصلية، الذي افتتح في العام الماضي ويرتاده زبائن من الجنسين، لمشاهدة العروض الكوميدية الليلية والحفلات الموسيقية.
تقول مريم: «لقد اصبح الناس اكثر تحرراً في سلوكهم الاجتماعي.»
اما الذين يشكون ضيقاً في الجيب يحول دون ارتيادهم المقاهي وكازينوهات ابي نواس فإن جسر الجادرية فوق نهر دجلة هو ملاذهم الذي يوفر لهم مكاناً مرتجلاً يقيمون فيه مجالس مرحهم.
يقال ان هذا الجسر هو ابرد نقطة في مدينة بغداد لأن الهواء العليل ينساب اليه بعد ان يمسح وجه النهر، لذلك تحضر العوائل اليه ايضاً لاسيما في اشهر الصيف عندما تتعدى درجة الحرارة 38 درجة مئوية حتى في منتصف الليل.
يقول عماد سلمان، عمره 50 عاماً، الذي كان يقف مع زوجته واطفاله الثلاثة على جسر الجادرية: «الجو في البيت لاهب، لذلك نأتي الى هنا حيث يأتي كثير من الناس للترويح عن انفسهم.»
خلال هذا الوقت كان ليل الخميس قد انقضى ولاح صباح الجمعة، فقد اوشكت الساعة ان تعلن الثانية صباحاً.
بدءاً من منتصف شهر تموز منعت الشرطة شرب الخمور في الاماكن العامة المفتوحة، وبذلك اصبح الجسر هدفاً مرصوداً للمداهمة. وبينما عماد يحدثنا اقبلت دورية شرطة من بعيد فصرخ احدهم من مكان ما على الجسر لا يبعد عنا كثيراً: «اهربوا .. اهربوا .. لقد جاءت الشرطة.» فوثب الجميع الى سياراتهم وانطلقوا مسرعين.
بعد نصف ساعة عادوا .. ثم عادت الشرطة ايضاً وتفرق الناس من جديد.
آنذاك كانت الساعة قد بلغت الثالثة صباحاً وحان لنا ان ننهي نحن ايضاً ليلتنا.