مدرسة ثانوية أصبحت متحفاً لذاكرتها. ثمّة مقابر جماعية دفن فيها بعض أفراد أسرة «ميماو»، ولم يكن من السهل طرح السؤال عليها دون إيقاظ مزيد من الألم في نفسها. فهمت «البيان» أن حياة ميامو مليئة برائحة الموت. القاعة في منتصف المتحف كان يفترض أن تكون فصلاً دراسياً يتعلم فيه طلاب المدرسة كيف يعيشون حياة كريمة.
لقد تحولت إلى مكان لحفظ بقايا رفات ضحايا حرب إبادة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقعت في بلد غارق في الفقر. عندما يأتي الروانديون إلى هذا المكان يواجهون الرعب الذي يذكّرهم بجنون القتل. هو متحف للموت ومقياس الإنسانية المتبقية لدى البشرية كي لا تتكرر مأساة الإبادة.
فقدت «ميماو» الناجية من المجازر 18 شخصاً من عائلتها، دفن بعضهم في كنيسة نياماتا، ولم يتم العثور على جثث باقي أفراد عائلتها الذين أبيدوا جميعاً. تروي نظيرتها اليزابيث نيكوس أنها كانت تعيش مع أسرتها (من قبيلة التوتسي) في إحدى القرى.
وكان والداها يعملان في الزراعة، وفي أحد الأيام جاء إلى قريتهم جنود محملون بالأسلحة وأخذوا يصرخون بأعلى أصواتهم: «سوف نقضي عليكم»، وبدأوا يطلقون النار ليثبتوا صدق تهديدهم. فهُرع الأهالي إلى الكنيسة ليحتموا بها، بينما تركهم الجنود حتى يتجمعوا ثم هجموا عليهم.
لم يرحموا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا حتى رضيعاً. قتلوا أبا ميماو وأمها وشقيقاتها على مرأى ومسمع منها في مشهد يدمي القلوب، وهمّوا بقطع رأسها.
وعندما حاولت الفرار من المكان قطعوا أصابع قدمها، ثم ضربوها على رأسها فسقطت على الأرض، فاعتقدوا أنها ماتت وتركوها. بعد أن غادروا رفعت رأسها واكتشفت أنها وحيدة وسط الجثث، ولم تجد ما تقتات عليه سوى بعض من جذور النباتات وأوراق الشجر إلى أن تم إنقاذها، ثم أودعت في ملجأ للأطفال الذين فقدوا ذويهم.
هذا ما رواه عدد من أهالي رواندا الذين التقتهم «البيان» خلال مرافقتها لمؤسسة دبي العطاء في رحلة رصد وتقييم للبرنامجين اللذين أطلقتهما العام الماضي 2017، ويركزان على التحدّيات التعليمية الرئيسية في رواندا، الأول بعنوان «شراكة من أجل التعّلم والابتكار» مع مؤسسة «تعليم»، والثاني بعنوان «التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة».
موت وشلل
بيبي ياني قتل أبوها في الحرب وأصيب أخوها بالشلل بعدما ضربه أفراد من الميليشيات على رأسه، وأمثالها كثيرون، والمعاناة تتضاعف مع صعوبات الحياة، فيما تتذكر ياني فصلاً مريراً في حياتها وحياة بلدها.
وتضيف ياني الناجية من الإبادة: كنا نسكن قرب الحدود حين حجزوا السكان وسدوا الطرق وهاجموا مساكن التوتسي، وقتلوا أبي وضربوا أخي على رأسه، وأصبح يتعرض لنوبات من الصرع والصراخ الشديد لهول ما يتذكره.
كنيسة «نياما» الشاهدة على الإبادة ليست استثناء ففي جميع أرجاء رواندا تحوّلت أماكن اللجوء إلى أماكن للرعب، فكيف يتعايش قتلة وضحايا في بلد يعتمد مستقبله على ذاكرته؟. ابتداء من السابع من أبريل من كل عام ولمائة يوم، توقد شعلة التذكّر في مركز«إيبوكا» في العاصمة كيغالي. إنها مائة يوم من الحزن والدموع في البلاد على ضحايا حرب الإبادة عام 1994.
كم من الأرواح زهقت.. كم من المنازل تحوّلت إلى قبور لأهلها. لقد خلّفت مجازر الإبادة ما يقارب المليون ونصف مليون قتيل، ومئات آلاف الأيتام والأرامل وأصحاب العاهات المستديمة، وقصص مآس لا حصر لها تقشعر لها الأبدان. أي شمس تجفف دموعها كي يستقيم درب مستقبل رواندا؟، وأي ضوء يقضي على الحقد الذي جعل منها ضحية على قيد الحياة لترتدي لون الأمل، رغم جروحها الطرية؟.