السويداء تختبر هشاشة الانتقال: هل تُرهن الدولة السورية بأزمة الثقة؟

متابعة الرافد/ بقلم زينه عبدي

حين تحدث السوريون والسوريات قبل شهور وتحت مظلة “الحوار الوطني” عن دستور البلاد المؤقت وشكل الانتخابات القادمة التي ترد للشعب السوري ولو بنسبة بسيطة جزءاً من إحساسهم المنسي بالمواطنة الفاعلة والمصالحة الوطنية، ظن الكثير أن هذا الطريق أصبح معبَّداً، رغم تشكيك البعض، لبناء بلد جديد خالٍ من النزاعات والصراعات وأصوات البنادق والرصاص، وبدا للوهلة الأولى ولأول مرة في تاريخ البلاد كأنه نموذجاً لتحطيم هالة الدم، إلا أن صدى إطلاق رصاصات السويداء ورائحة البارود أعادتنا إلى حقيقة واقع يقول: أن هذه المرحلة الانتقالية في سوريا بين السلاح والأوراق معاً، السويداء حالياً ليست نزاعاً عشائرياً عابراً فحسب، بل باتت مرآة ترينا هشاشة الأمل الذي عوّل، ولا يزال، عليه السوريون والسوريات في تحقيق طموحاتهم/ن نحو وطن جديد، فهل السلطة الجديدة لديها ما يكفي لتأمين حياة حرة كريمة لهم/ن قبل طي صفحات السالف؟ أم أن الثارات وحالات الانتقام والتحريض داخلياً وخارجياً كفيلان بإعادة إنتاج مرحلة الانقسامات والأزمات في غياب الدولة بصورة رسمية أو تواجدها بإطار أحادي الجانب؟ والسؤال الأبرز: هل يمكن بناء الثقة بين الشعب والسلطة القائمة حالياً؟.

نقطة ضعف رمزية تفضح هشاشة السلطة

منذ انطلاق الثورة السورية بما رافقتها من صراعات ونزاعات داخلية، ظلت مدينة السويداء ذات كيان خاص تحكي لغة تشبهها، رافضةً بشكل جزئي الانخراط بصورة متكاملة في الحرب الدائرة في البلاد، تدير نفسها ضمن إطار حكم ذاتي ولكنه غير معلن مع الاحتكاك المستمر مع كافة الأطراف، لهذا حينما حدثت اشتباكات بين مجموعات الدروز وعشائر البدو بعثت برسالة مفادها أن الصراعات والنزاعات مهما تجمدت وتم تجاهلها فإنها ستعود لتحيا من جديد لا محال. يرى بعض الباحثين والمحللين أن السويداء تعتبر نقطة ضعف رمزية بسبب عدم قدرة سلطة الأمر الواقع فرض سيطرتها بصورة قانونية ودستورية عليها، الأمر الذي يجعلنا نشكك في قدرتها على إدارة وحماية باقي الجغرافيا السورية.

اختبار صعب

تعد إدارة الأزمة في السويداء امتحاناً صعباً للغاية بالنسبة لسلطة الأمر الواقع في ظل المرحلة الانتقالية، حيث أن الفجوة والشرخ الهائل خلال الاشتباكات الحالية في الجنوب كانت جلية بدليل انعدام شبه تام لخطة مباشرة من قبل السلطة عبر مؤسساتها المتمثلة بالجيش والأمن العام لردم كل ما يزعزع الأمن والاستقرار في المدينة، كما أن الضعف في التنسيق بين المجالس الانتقالية في السويداء والسلطة في دمشق عقَّدت الأمور أكثر، وازدادت سوءً لا سيما حين استنجاد أبناء وبنات السويداء بأطراف خارج الدولة السورية عبر قنوات تواصل دفاعاً عن نفسه، في غمرة مشاهد الفوضى الحالية، فتدخلت إسرائيل بضربات جوية كحماية للمكون الدرزي .

أحداث السويداء لم تكن مجرد صدامات أو مواجهات محلية بقدر ما كانت اختباراً قاسياً لقدرة السلطة الحالية الانتقالية على إدارة الأزمات الداخلية السورية والمركبة من عدة أطراف.

شرارة هذه المواجهات أكدت بشكل علني وصريح، بل وفضحت وبالسرعة القصوى هشاشة الاتفاقيات الموقعة والتي كان من المفترض أن تتحول إلى قاعدة بيانات أمنية معززة على الأرض بدعم من الأطراف العسكرية والأمنية السورية، التي تشكلت مطلع العام الجاري بدعم دولي، لتكون ذراعاً تنفيذية لحفظ الأمن والاستقرار في البلد لا سيما في المناطق الهشة، إلا أنها كانت ذات دور غير تفعيلي على الأرض وبدت عاجزة في بسط الأمان والأمن لضمان الاستقرار النفسي لدى الأهالي قبل القيام بأية خطوة أخرى من شأنها إشعال فتيل النار والفتنة الأهلية بين السوريات والسوريين، وبسبب تقيد السلطة الحالية ببعض التوازنات السياسية وفرض سيطرتها بقوة السلاح فقط وترهيب أبناء وبنات السويداء، ولّد ذلك شرخاً شاسعاً سمح لجميع الأطراف من الفصائل المحلية بلعب دور الدولة.

في خضم هذا المشهد، بات المواطنون والمدنيون رهائن: أسر بأسرها محاصرة، شباب مدنيون تقدموا إلى خطوط المواجهة الأمامية، ونزوح جماعي داخلي وسط انعدام شبه تام لمنهجية خطة عمل إنسانية واضحة، وبسبب غياب إدارة الدولة بخطط فعلية داخل الميدان كبرت الأزمة يوما بعد يوم. اليوم إذا كانت السلطة في دمشق تريد إثبات ذاتها أنها أكثر من سلطة مؤقتة، فعليها إثبات قدرتها على إدارة الأزمات الداخلية قبل هرولتها لفتح صناديق الاقتراع وإدارتها، والاختبار الحقيقي يكمن في حماية الناس لا التعدي عليهم وترهيبهم ،أو بإصدار بيان يتوعد فيه المحاسبة ويطلب من الأهالي الصبر في ظل إراقة الدماء.   

أزمة ثقة

تنحصر المرحلة الانتقالية في المشهد الحالي بكلمة واحدة فقط هي الثقة، هذه الكلمة التي تهز الكيان والوجود الفعلي فكانت ولا تزال الضحية الأكثر خفاءً وعناداً في الإياب، فالسويداء لم تفضح هشاشة قبضة الدولة الأمنية فقط، بل وجهت الانتباه وبقوة إلى التصدع العميق بين الشعب والسلطة الجديدة.

اعتدنا نحن، السوريات والسوريين، ولعقود من الزمن على غياب الدولة السورية بشكل تام أو حضورها بالقوة المتجاوزة للحدود، ومع إشراقة السلطة الجديدة ودستورها المؤقت بدا للشعب السوري أن هذه المعادلة سيتم محوها وتنتهي، فالدولة ستكون مدنية تحفظ حقوق الجميع بعيداً عن أي إقصاء أو تهميش وستتولى احتكار العنف بكافة أشكاله على قدر من المسؤولية، إلا أن الأزمة في الجنوب السوري أكدت ما يناقض تماماً، فالثقة باتت مشروخة بين المكونات والعشائر والفصائل والسلطة الانتقالية الحاكمة.

للأسف هذا الخوف المتوارث انعكس، ولا يزال، على الحوار الوطني. ف نسبة كبيرة من الشعب السوري شرعت بالتشكيك فيما تقوله السلطة في حين لم تترجم أقوالها إلى أفعال في ظل الفوضى الحالية، وبات الأهالي في السويداء يتساءلون: هل من ضمانة حقيقية على الأرض لتنفيذ وعود العدالة الانتقالية بغية إنصاف الضحايا وردع الاعتداءات؟.

وهناك الكثير من المؤشرات وحسب المعطيات التي تؤكد أزمة ثقة بين جميع الأطراف وعلى رأسها السلطة، بعض الأطراف تفسر وتنظر للكورد والدروز على أنهم انفصاليون ويريدون الاستقلالية التامة في ظل مكاسب إدارية خاصة بهم، والبعض الآخر ينظر إلى المصالحة الوطنية الجامعة على أنها إعادة إنتاج نخب قديمة بصورة جديدة، بالإضافة إلى أن فئة من الثوار والفصائل التابعة لها تخشى تهميشها حيال استعادة موازين القوى لمعادلة “من الأقوى سلاحاً”.

وهنا تبدأ أزمة الثقة بالتقاطع مع أشرس أزمات الانتقال وأخطرها: هل الشعب سيختار الدولة أم التطرف والعصبية؟ وكيف سيصدق ابن السويداء أن السلطة الحالية ستحميه من أي انتهاك في حين اشتعال نار الفتنة الطائفية وخطاب الكراهية؟ وكيف سيقتنع المقاتل سابقاً أن سلاحه ليس صوته الوحيد؟ لهذا إعادة بناء الثقة يعد مساراً بحاجة إلى الاحترام الفعلي للشعب السوري بمختلف انتماءاته والصدق في الأفعال وقضاء مستقل ووحدة أمنية جامعة وطنية بمنأى عن المحسوبيات وخطاب وطني لا ينكر ولا يقصي، وإلا ستبقى المرحلة الانتقالية معلقة إلى أجل غير مسمى في ظل أصوات البنادق نتيجة الأزمات الداخلية.

لعل أفضل درس من مشهد السويداء اليوم، هو أن المرحلة الانتقالية تحتاج ثقة، لا تفرض بقوة السلاح من قبل السلطة الحالية، وأمان يشمل الجميع، والسؤال الحتمي الذي يطرح نفسه: هل بإمكان سلطة الأمر الواقع فرض سيطرتها وهيبتها قانونياً ودستورياً في الوقت الراهن على منطقة الجنوب السوري بما يكفل حقوق السوريين والسوريات فيها، والتي ستنعكس إيجاباً على الشرق والغرب والشمال بذات الوقت؟ أم أن الموجة الإقليمية ستدفع بها إلى مرحلة مفرغة كما السابق؟.

وعلى الأطراف ذات الصلة بالمرحلة الانتقالية أن تدرك أن اكتساب الشرعية عبر القانون والدستور يأتي بالفعل وليس بالقول، والمشهد في السويداء يذكرنا بأن الذاكرة الجمعية السورية لا يمكن محوها على الإطلاق وأن بناء دولة جديدة يحتاج إلى الترويض المتكامل لفئة من أشباح الحرب التي تكشف عن أنيابها بين الفينة والأخرى لا سيما أن المشهد حالياً خصب وملائم بما يكفي لتحقيق هدفها.