استقالة بيدرسن: فراغ أم فرصة في مسار العملية السياسية السورية؟

زينه عبدي / الرافد
تأتي استقالة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، الدبلوماسي النرويجي غير بيدرسن، بعد الجهود الدبلوماسية لأكثر من ستة أعوام في صميم أحد أشد الصراعات في العصر الحديث. لا يمكن اعتبار هذه الخطوة مجرد تغيير في إحدى المناصب، وإنما تمثل لحظة محورية ومفصلية في ظل التحولات والتغييرات الجذرية التي شهدتها سوريا، ولا تزال، لا سيما بعد الإطاحة بنظام الأسد والدخول في مرحلة جديدة من الانتقال التي فرضت إعادة تشكيل حكومة انتقالية بما يتوازى مع الواقع المفروض بصورة مؤقتة. وعبر هذه الاستقالة، من الوضح إثارة التساؤلات حول دور الوساطة الأممية في مستقبل سوريا الحديد ومسار العملية السياسية وإعادة الإعمار وبث الاستقرار فيه بعد سنوات طويلة من الحرب.
دوافع الاستقالة وتوقيتها
لم تأتِ استقالة غير بيدرسن من فراغ، رغم أنه قد أعلن أنه قرار شخصي، إلا أن تحليل السياق في ظل المشهد السياسي المعقد يبعث بدوافع أخرى، منها التحولات الجذرية في المشهد السوري العام لا سيما بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد بتاريخ 8 ديسمبر 2024، التي شكلت لحظة دراماتيكية من التحول والتغيير، حيث لا بد من إعادة تعريف لكافة الأطر التي بلورت المفاوضات ودور الأمم المتحدة في مسار العملية السياسية بما فيها القرار2254.
ويعد استمرار عمل بيدرسن في بيئة مليئة بالعقبات والضغوطات من أبرز دوافع استقالته، حيث الأزمات الإنسانية الجسيمة وكيفية معالجتها لا سيما في مناطق الحصار على سبيل المثال ضاعف ضغطا كبيرا إلى جانب ضغوطات التفاوض السياسي، أجندات القوى الإقليمية والدولية على الأرض السورية التي باتت في تناقض واضح، النزاعات والصراعات الداخلية بما فيها الانشطارات بين الأطراف السورية، مما عقد المهمة الأممية أكثر وعلى ما يبدو ستطول. بالإضافة إلى ذلك التضاربات الممكنة حول صلاحيات المبعوث الأممي إلى سوريا ودوره المفصلي في ظل المرحلة الانتقالية الذي ربما يختلف عن سابقه حول الوساطة السياسية بصورتها المتعارف عليها.
استمرار الضغوط عليه قد أنهكته، ففي خضم الواقع السياسي السوري الراهن باتت إدارة التوازنات الدقيقة بين المصالح الداخلية السورية والخارجية كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وتركيا منهكة للغاية وتحتاج إلى أساليب وأفكار جديدة في معالجة ووضع الحلول المناسبة للتخفيف من ضغوط التوازن بين مصالح الدول الإقليمية والكبرى.
التداعيات السياسية والدبلوماسية
تحمل استقالة المبعوث الأممي رسائل قوية فيما يخص مسار العملية السياسية في سوريا، والدور المحوري لكل الفاعلين إقليميا ودوليا، وأبرز تداعيات هذه الاستقالة يمكن ربطها بإعادة التعريف الجديد للدور الفعلي للأمم المتحدة فيما يخص الملف السوري وتقييم مهام بعثتها، ومراجعة دقيقة لطرق وأساليب التفاوض والوساطات المتبعة خلال السنوات الماضية.
كما أنها تعد فرصة وركيزة أساسية لتعديلات جديدة تلائم الواقع الحالي وما رافقته من تغيرات وتحولات على الأرض، ومراجعة للقرار 2254 الذي كان بمثابة المخطط السياسي لعمل بيدرسن. كما ويترتب اختيار مبعوث جديد مناسب لهذه المهمة الحساسة حاليا بسبب التعقيدات الجسيمة المرافقة للملف السوري كالمصالحة الوطنية وإعادة الإعمار والعدالة الانتقالية، وهذا الاختيار سيؤثر بصورة مباشرة على دور الأمم المتحدة واستمراريته بشكل فاعل في المشهد السوري المتأزم.
تعتبر هذه الاستقالة فرصة للحكومة الانتقالية بدمشق لتظهر مدى التزامها بالمعايير الدولية فيما يخص الإصلاحات المطلوبة وكيفية التعاون مع المجتمع الدولي سواءً في مجال حقوق الإنسان أو الشفافية وإعادة الإعمار والمصالحة الوطنية. كما وتضعنا هذه الاستقالة أمام مرحلة جديدة من الوساطات مختلفة تماما عن سابقتها من حيث الخطط الاستراتيجية والأدوات بما يناسب تعقيدات الملف السوري الحالي. بالإضافة إلى ذلك لهذه الاستقالة تأثير مباشر على التوازنات الإقليمية والدولية وهذا ما سيعيد ترتيب المواقف الفاعلة في الأزمة السورية وإعادة صياغة تحالفات جديدة على المستوى الدولي بما يكفل جميع المصالح دون إلحاق ضرر بالنواة الداخلية واستقرارها.
دمشق أمام اختبار
جاءت استقالة بيدرسن اختبارا للحكومة الانتقالية في دمشق التي لا تزال في مرحلة الولادة وتكريس الشرعية بدءً من الصفر بعد الإطاحة بنظام الأسد الابن، الأمر الذي خلق فراغاً دبلوماسياً يفرض عليها إعادة ترتيب أوراقها لتعزيز وجودها في الفضاء الدولي.
يستدعي غياب الوساطة الأممية البحث عن أساليب وآليات تفاوض جديدة تكفل استمرارية الدعم الأممي والدولي لا سيما في ملفات اللاجئين وإعادة الإعمار، كما أن الاعتراف دوليا بشرعية الحكومة الانتقالية سيكون متأثراً بهذا الفراغ الدبلوماسي لحين تعيين مبعوث جديد إلى سوريا. وترى أطراف داخل الحكومة الانتقالية أن هذه الاستقالة هي بمثابة فرصة جديدة للمضي في مسار العملية السياسية بالشكل الذي يطمح إليه السوري في بناء سوريا الجديدة.
أريد القول، أن استقالة بيدرسن هي امتحان حقيقي للحكومة الانتقالية في دمشق حول مدى قدرتها لملء الفراغ الدبلوماسي الأممي وتحويله إلى رافعة لتعزيز استقلالية إدارتها وكذلك القرارات الوطنية التي تحفظ كرامة الوطن والمواطن.
وأخيراً، إن استقالة المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن ليست بمثابة محطة أو رحلة إدارية في سجلات الأمم المتحدة، بل تعد لحظة حساسة وفارقة تعكس المدى العميق لأطر التحولات والتغيرات الجوهرية في البلاد. وبينما تحاول الحكومة الانتقالية جاهدة لترسيخ حضورها داخليا وخارجيا، يضع هذا الغياب الدبلوماسي سوريا أمام مرحلة جديدة ربما تحمل تعقيدات أشد خطورة أو فرصا جادة وحقيقية فيما يخص الحوار السوري-السوري. بات مستقبل سوريا اليوم مرهونا بالقدرة على الاستثمار الكامل لهذه اللحظة المحورية لتوليد مسار سياسي يتمتع بالشمولية والاستقلالية غير متأثر بهذا الفراغ الأممي، وأن لا يكون إحدى أهم أسباب تعثره، وإنما فرصة لتثبيت شرعيته وسط فراغ الوساطة الدولية. وبينما نحن في حالة انتظار بين تعيين مبعوث أممي جديد إلى سوريا وتبدل موازين الأطراف والقوى الدولية، يبقى السؤال الأبرز على الساحة: هل تستثمر الحكومة الانتقالية في دمشق هذا الفراغ للبدء بعملية تسوية سورية-سورية دون تدخلات وضغوطات خارجية لرسم المشهد من جديد، أم إلى فراغ أشد خطورة وتعقيداً؟