بقلم / زينه عبدي
بعد حرب دامت لأكثر من عقد من الزمن، هل لا تزال الوطنية السورية محصورة بفكرتها الساذجة المصاغة عبر خطابات رسمية أو مناهج مدرسية؟ اليوم، وفي ضوء ما جرى في الساحل السوري خلال شهر آذار الماضي وما يجري الآنفي مدينة السويداء الجنوبية، تبدو لنا هذه الوطنية كأرض منشطرة انشطارات عدة، ما بين الأمل والخيبة، واليقظة التامة بمطالب محقة دستوراً وقانوناً، والتخوف من الدور المنتظر لذاك المستقبل الخالي من الوطن، الذي كان ولا بد منه ليجمع شمل أبنائه وبناته، فماذا تبقى منها حقاً؟ وهل من أفق إزاءها كي تبقى فكرةً على قيد الحياة، لا مجرد رموز وشعارات ذات سياقات مضللة ومحتالة؟.
من حلم التأسيس إلى التآكل واقعاً
ولدت الوطنية السورية كتعبير عن فكرة المقاومة مطلع القر ن العشرين، رُجحت على أنها رد على الاحتلالين العثماني والفرنسي آنذاك، كما واعتبرت مشروعاً هدفة تقديم الحماية اللازمة لهذه الوحدة الجغرافية العابرة لأديان ومكونات وطوائف جمة، وكانت للنخبة المثقفة ومشايخ وزعماء العشائر النسبة الأكبر في حملها، حيث مع الاستقلال تطورت لتصبح أملاً بدولة جديدة وحديثة تستوعب وتحتضن السوريات والسوريين تحت قبة “سوريا الواحدة” أو ” سوريا للجميع”.
هذه الوطنية منذ البداية خلقت هشة، نسيج متنوع ومتمايز مناطقياً وطائفياً وعرقياً، الفشل الذريع للحكام في قولبة فكرة الوطنية من شعار جامع إلى مشروع قومي حقيقي للحقوق المتساوية والمواطنة تحت مسمى” سوريا هي القلب النابض للعروبة” بفعل حكم حزب البعث الذي رسم حدود الوطنية التي يتمناها، الأمر الذي وحّد سوريا أمنياً وسياسياً لا تنميةً وعدلاً وإنسانياً.
وعلى هذه الحال، باتت الوطنية أداة تعبئة وضبط بالإكراه، لا عقداً أو وثيقة حية محدثة بالمشاركة الفاعلة والثقة المتبادلة، وظلت حاضرة وبقوة فقط في الكتب المدرسية كما أتذكر وفي الشعارات الفضفاضة في ظل غياب تام لها عن حياة السوريين والسوريات اليومية، حتى كشفت تماماً وعريت بالمجمل خلال الحرب الأخيرة، فإذا بالتفتيت والهشاشة لعقد المواطنة حيال اصطدامها الأول، وباتت الطوائف والمكونات وأغلب الجغرافيات السورية في بحث دائم عن الخلاص والدفع نحو الاستقرار بسبب عجز الدولة السورية بالكامل عن الاحتضان والاحتواء والاعتراف بالمختلف.
تحويل الوطنية من شبح الشعارات الرنانة إلى حقيقة تحمي الشعب السوري ستتم عبر العدل والمحاسبة ولا تزال ممكنة إن حاولت سلطة الأمر الواقع الدفع بذاك الاتجاه إلا أنها ليست مجانية ولا مضمونة، الساحل السوري والسويداء أنموذجاً.
حين تخيب الحاضنة ويُختَبر الولاء
مثّل الساحل السوري، ولعقود متتالية، حجر الأساس والقاعدة الأساسية لآل الأسد في تثبيت حكمهم، حيث نالت غالبية أبنائه، وعلى عقود التهميش الطويلة، حصصهم في المؤسسات الأمنية والعسكرية مدافعين عن الدولة السورية وبقائها. إلا أن المدد الزمنية الطويلة للحرب المصحوبة بالفساد المتراكم والفقر المتوارث، كشفت للكثيرين أن الولاء بمفرده غير كافِ ليجزيهم حياة عادلة وكريمة تحفظ لهم حقوقهم التي كانت طي النسيان.
اليوم، وبعد الأحداث الدامية في الساحل ، نلاحظ تحوله إلى فضاء خيبة تجيد الصمت بحذر لا متناهِ، انتهاكات بلا إحصاء وفوضى أمنية وجرائم متزايدة من خطف وقتل واعتقال على الهوية، والكرامة مهدورة والخيبة مكبوتة وفساد مزمن واقتصاد متآكل، وهنا تبددت الوطنية بصيغتها الأكثر هشاشةً، ولاء هذه الحاضنة الاجتماعية كان يجب أن تقابَلَ بالاستقرار والأمان، لكنها هُدِّدت وتم تآكلها إنسانيةًووجوداً، تصدعات وجودية لا يمكن إصلاحها أو إلغاءها إطلاقاً. الأحداث المرتبطة بالجرائم ضد الإنسانية أو يمكن اعتبارها جرائم حرب إن صح القول، كلها لا يمكن تبريرها على أسس تؤكد ارتباط وتحالف فئة أو طائفة معينة بالسلطة الحاكمة قبل سقوطها. هذا الخزان البشري الذي بقي الأكثر ولاءً للدولة السورية تاريخياً لم يبقً فيه موضعاً للإصلاح قط. وقد أثبتت هذه الأحداث وبجدارة لا متناهية حيويتها في الكشف عن هشاشة الأمان والمواطنة الوهمية الصورية.
حين يُعلِن التهميش تمرُّده
تجسِّد السويداء ذات الغالبية الدرزية خصوصية ضمن المشهد السوري، ورغم تعاقب مراحل التهميش سياسياً واقتصادياً، إلا أنها بقيت متماسكة اجتماعياً تتميز بالسلم الأهلي الذي يُحتذى به، لكن منذ تسلم السلطة الحالية الحكم انتقالياً، بعد هروب الأسد، تبدل المشهد في السويداء تزامناً مع الأحداث الجارية حالياً ضد الطائفة الدرزية التي فجرت مكامن مطالب الأهالي بالكرامة السياسية والأمان الاجتماعي رفقة استقلالية القرار، هذه الأحداث لم ولن تكون مجرد انتفاضة لأجل العيش بل اختبار صريح وعلني لفكرة الوطنية السورية ذاتها لا التقسيم والانفصال كما يدعي بعض المزاودين عليها، فقد طالب الدروز بحق المواطنة كما البقية توفر لهم حياة كريمة داخل دولة القانون وتحترمهم كإنسان يعيش بكرامة دون الظلم المقيت الذي لاحقهم على مدى عقود، مؤكدين على أن الوطنية هي بمثابة عقد اجتماعي يفرض على السلطة الحاكمة، ضمن هذه الفترة الانتقالية، أن يخدم الشعب لا أن يهينه ويعتدي عليه بسبب هويته أو اختلافه مذهبياً وطائفياً.
وبينما حاول الكثير تصوير هذه الأحداث النازفة على أنها نزعة انفصالية، أكد أهالي الجبل ارتباطهم الوثيق بوطنهم سوريا، لكن الآن بعيداً عن الولاء لأية جهة كانت فرداً كان أو جماعة، وطن يحفظ لهم كرامتهم دون تهميش أوإقصاء أو تفضيل مكون على آخر. هكذا تعيد السويداء تعريفها للوطنية بطريقتها الخاصة بأنها ليست ولن تكون شعاراً براقاً متعالياً، بل حق تناله بتلقائية دون شروط مسبقة للعيش بعدالة وحرية ومنحها أسباباً للبقاء. وإن أُطِرت بشكل آخر غير ما ذكر، فإنها ستنهار دون سابق إنذار متحولةً بذلك إلى ما يمكن طرحه على الشكل التالي والذي يعتبر طرحاً خطيراً من قبل الدرزي نفسه: لماذا أظل جزءً من سوريا لا تعاملني كمواطن، بل كعبء؟ ولماذا أحمّل نفسي معنى المواطنة الزائفة مادامت الدولة ذاتها تزرع بداخلي نقيض المواطنة الذي يشعرني بأنني مجرد رقم أو ضحية أوتابع بلا صوت أو حماية أو تأثير، أو جماعة طائفية عابرة هدفها التفتت والولاء الشخصي لمذهبها أو هويتها كبديل عن الدولة الجامعة، لا مواطنا؟.
وطنية مشروطة
ربما النتيجة الأكثر إيلاماً اليوم من نزيف الساحل السوري وتململ السويداء هي كشف جوهر الوطنية السورية، وطنية لم تعد مفروغاً منها أو تلقائية بل باتت مشروطة. ما شهدناه في المنطقتين ربما مختلفتين في الشكل إلا أنهما متطابقتين جوهراً تريدان التمتع بحقوق المواطنة لا رعايا صامتين، وهنا الفرق كبير.
وفي خضم الأحداث التي لا تزال مستمرة، بدت مطالب المنطقتين أخطر من مجرد أحداث بالنسبة لسلطة الأمر الواقع، فقد انحصرت المطالب بامتحان علني فيما يخص إعادة تعريف علاقة الشعب مع السلطة الانتقالية أو مع الدولة. الأمر الأكثر خطورة أن الوطنية المشروطة بالكرامة والعقد الاجتماعي وتقاسم الثمن والمكاسب إن لم يجدَّد عقدها، سيتم تآكلها من الداخل. البديل ليس بدويلات أو انفصالات بصورة رسمية، بل أخطر مما نعتقد فقد يصبح الانتماء أضعف في ردعه للعشائرية والطائفية والأسلحة المنفلتة وكذلك الهويات الدنيا داخل الدولة الواحدة. وهنا يغيب القانون كلياً لتحل الروابط الصغيرة محله لتساوم وتحمي وتبني مستقبلاً واحداً مشتركاً، إلا أنها لا تبني وطنا واحداً بل تهدم ما تبقى منه.
اليوم، تتكلم السويداء والساحل الجريحتان معاً، ولكن كلٌّ بلغته. وإن لم تكن الدولة قادرة على الاحتواء واستيعاب مطالبهما في المواطنة، فإن الوطنية ستظل رماداً يتلظى تحته غضب وخيبات أمل في انتظار الاشتعال مرة جديدة ، ولكن بخسارات أكثر للتأكيد على عدم البقاء وقوداً لتلك الوطنية الشعاراتية الزائفة والتي تستنزف الولاء دون مقابل.
الجميع في مفترق الطرق بعد الأحداث الدامية في السويداء ، فهم يريدون دولة قانون حقيقية ذات دستور وطني جامع، لا سلطة قامعة ، وطناً لا صندوقاً بشرياً، حقوقاً إنسانية لا شعارات فقط. الوطنية حاضرة لكن بشرطها الواضح بعقد عادل، ودون ذلك سيؤدي إلى انشطارها لولاءات بصورة هوياتية وخطاب هوياتي وبنى هوياتية(إثنية، مناطقية، طائفية) بعيدة عن الانسجام الوطني العميق والحقيقي والمستنير.