الرافد/ زينه عبدي
منذ أكثر من أربعة عشر عاماً، وسوريا تلازمها العواصف دون أن تهدأ. كما نعلم جيولوجياً، ولا سيما فيما يتعلق بالزلازل، تتبعها هزات ارتدادية لاحقة، مذكرة إيانا أن الصدمة الأولية لم تنته بعد وتأثيرها لا يزال مستمراً، بل في طريقها نحو سلسلة جليلة من الاضطرابات الداخلية. هذه الهزات المرتدة تتخذ صوراَ اجتماعية وأمنية واقتصادية وسياسية، أدخلت البلاد في حالة اهتزاز دائم، حيث لا يكاد الشعب السوري يلتقط أنفاسه للخروج من أزمة والدفع نحو البناء كما كل المجتمعات والبلدان حتى يجد نفسه في أخرى أشد تأزيماً واضمحلالاً.
بذات الوقت وفي خضم الأزمات الداخلية المتتالية، يمر السوريون والسوريات بمخاض أعقد عسراً من سابقته، بل ويتوافق بصورة أشد قرباً من الارتدادات الأكثر قسوةً و شراسةً، إلا أنه يحمل في رحمه احتمالية ولادة يسيرة جديدة. لا أعتبر المخاض هنا ضامناً وكفيلاً للدفع نحو ما هو متجدد بالصورة التي نريدها وبأقصى سرعة ممكنة، بل يُعتبَر اختباراً شديد العسر ربما يفضي إما إلى ولادة جديدة تتنبأ بمستقبل أفضل أو إلى خلق المزيد من الانهيارات.
في السياق السوري، لا نعتبر هذه الهزات الارتدادية مجرد وقائع أو أقاصيص متفرقة، بل هي فعلياً سلسة من الحلقات محكمة الاتصال ذات التأثير الناتج عن انفجار الأزمة الأول.
هذه الارتدادات هي موجات جديدة من العقبات والتوترات تنفجر حالما يعتقد السوريون والسوريات أن الوضع بات يسير نحو الأفضل مصحوباً بهدوء ناعم، إلا أن تعثر العملية السياسية وجمود المفاوضات والمسارات، التي تُعتبر اللبنة الأساسية في التوصل لأي اتفاق سوري سوري كما هو الحال فيما يخص المفاوضات الجارية، بين الفينة والأخرى، بين سلطة الأمر الواقع في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، أو ما جرى بين دمشق والطائفة الدرزية في السويداء من أحداث مترامية أشعلت فتيل حرب طائفية خانقة أفقدت السلطة الحالية الثقة بل واستبعادها عن عقلية الدولة الوازنة التي لا بد منها في ظل هذه الظروف والمرحلة الانتقالية الحساسة التي تمر بها سوريا لإعادة رسم ملامحها كوطن عبر الإرادة الجمعية والعمل المستمر محلياً وإقليمياً ودولياً لتحقيق العدالة وما يرافقها من تسوية. فهل ستكون هذه الارتدادات عبارة عن صدمات متوالية تعيد صناعة الأزمات من جديد، أم هي مخاض ولادة لربما مختلف عما سبق؟
من خلال قراءتنا للمشهد السوري الراهن، فإن فشل وزارة الدفاع والداخلية السوريتان في حملتهما العسكرية الممنهجة ضد محافظة السويداء، دفعت نحو تغيُّرات جذرية في توازنات القوى في الداخل السوري، أضعفت السلطة في دمشق بل وأكدت على عدم امتلاكها القدرة الكافية والمتوازنة لحل الملفات الداخلية العالقة وذات الحساسية العالية في ظل الفسيفساء الهائل الذي تتمتع به سوريا منذ الأزل، كما أنها وبصورة صريحة أثبتت غياب مواجهتها للتحديات الإقليمية الضاغطة.
الضغوط التي مارستها إسرائيل على الحكومة السورية واستجابتها لها لم يكن مجرد واقعة عابرة، بل حدثاً شديد الخطورة، برأيي، كون ما قامت به الحكومة السورية تنطوي تحت مسمى التسليم لدولة خارجية، وبالتالي تدخلها المباشر، وبتكتيك ناعم، في المعادلة الداخلية السورية بذريعة إبقاء المنطقة الجنوبية الحدودية بين الدولتين منزوعة السلاح، الأمر الذي يجعل البلاد عرضةً للاختراقات الخارجية أكثر لا سيما أنها ذات بنية داخلية هشة حالياً.
أعتقد أن الهزيمة التي لحقت بالسلطة عسكرياً، ولَّدت ارتدادات قد ثقلت موازينها، حيث هذه الهزيمة ذات الوقع الأكبر على البنية الداخلية وبصورة سلبية، وربما لاحظنا ذلك عقب اللقاء بين الجانبين السوري والإسرائيلي في باريس، وما تمخض عنه من بنود على درجة عالية من الجودة بالنسبة لأهالي السويداء، إلا انها باتت نقطة ضعف للسلطة، كون الاتفاق لم يكن سورياً سورياً بحتاً، وهذا ما يقلق الجميع لا سيما أن الخارج لا يتدخل إلا عندما تتشابك مصالحه مع الداخل وهذا ما يجب على الدولة السورية تداركه قبل فوات الأوان والرجوع بنا إلى ما قبل الحقبة الأسدية، وبالتالي تأجيج الصراعات الداخلية والإبقاء عليها دون حلول، ومن ثم يبقى كل طرف سوري متمسكاً بما تملي عليه مصالحه السياسية والعسكرية والاجتماعية والعرقية والطائفية والمناطقية، وهذا مطلب حق طبيعي لأي فرد على هذه الجغرافيا ليعيش بسلام داخل دولة تتمتع بالقانون والحريات والدستور.
والجدير بالذكر أن الخيار العسكري متاح بين السلطة وقوات وسوريا الديمقراطية في حال عدم تنفيذ أي طرف لبنود الاتفاق، كمان أن فسخاً آخر يجتاح اللب السوري وهو الرفض التام لنتائج التحقيق في أحداث الساحل خلال شهر آذار/مارس الماضي من قبل المجلس الإسلامي العلوي، بالإضافة إلى الارتداد المرتبط بالعشائر العربية نتيجة الاتهامات التي وُجِّهت لهم من قبل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني تتمحور حول إحداثهم فوضى وحرب أهلية، نقيض ما التمسه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع في مدحهم، وقد فسرتها بعض العشائر بالتقويض الكامل لوجودهم وانهيار دورهم في البناء.
وفي ذات الإطار، وبعد التوقيع الذي تم بين سوريا وتركيا لدعم منظومة الدفاع السورية، بدأت تركيا بتعزيز وجودها الفعلي عبره والتدخل بصورة مباشرة، على سبيل الحصر فقد بادرت تركيا بفسخ الاجتماع المزعم عقده بين سلطة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية في باريس كرد فوري وعاجل على اجتماع وزير الخارجية السوري أحمد الشيباني بوزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر بعد أحداث السويداء لتهدئة الوضع وحقن الدماء السورية، حيث النتائج لم تكن مرضية لها لأنها، وفقاً لوجهة نظرها، ستنعكس إيجاباً على الكرد من ناحية المطالب وهذا ما لا تقبله إطلاقاً، كما أنه وفي حال طلبت السلطات السورية دعماً عسكريا تركياً فإنه سيواجَه بالرد غير المتوقع من جانب إسرائيل كونها تفسر التدخل التركي عسكرياً في سوريا هو تهديد لأمنها القومي.
لم تتوقف التدخلات الخارجية في سوريا منذ سقوط النظام السابق، بل باتت تزداد يوما بعد يوم كما الحال مع التدخل الروسي عبر تركيا ولعب دور الوسيط في العملية السياسية السورية انتقالياً وتقديم الدعم اللازم، لا سيما عسكرياً، وامتلاكها أوراق ضغط في العديد من الملفات السورية التي تعتبر من صميم التحديات أمام السلطة الانتقالية، وهذا ما شجعت عليه تركيا لتفكيك العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية وروسيا من جهة، وإنهاء العلاقة الروسية السورية السابقة(مع أتباع النظام السابق) وتفعيل العلاقات بين البلدين من جديد، عبر اللقاء الذي جرى بين موسكو ودمشق.
كل ما تم ذكره من ارتدادات إن لم يتم التعامل معها على أساس عقلية الدولة، فإن سوريا نحو الانهيار لا محال وإلى مزيد من التعقيدات والانقسامات الأمنية والاجتماعية والسياسية مع خطر الانزلاق وتصعيد إقليمي محتمل، لذلك بات مستقبل سوريا على المحك ويتطلب تكاتفت جميع الأطراف والتحرك بالسرعة القصوى بدعم إرادة دولية لتهدئة الوضع السوري وتقديم الحلول المناسبة نحو تسوية شاملة وجامعة تكون نتيجة حقيقية لتطلعات السوريين والسوريات لبناء وطن يليق بهم/ن
سوريا على صفيح ساخن: بين ارتدادات الأزمات ومخاض التغيير
