عمائر دولة المغول التي أُعجب بها مماليك مصر واستلهموا تفاصيلها في عمائرهم

سوزان عابد – مصر

 

هنا .. بمتحف أذربيجان؛ كان لقائي بأحد السباع التي ذكرها مبعوث سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون؛ الأمير أيتمش المحمدي ..يجلس وحيدًا قابعًا بمفرده يطوي تاريخ المسجد وتفاصيل كثيرة كان شاهدًا عليها. ألقيت عليه التحية وذكرته بما كتبه عنه وانفرد بذكره أيتمش ومدى انبهاره به، ووعدته بأن يومًا ما سوف أقص حكايتهما معًا هو وأيتمش، وها أنا اليوم أفي بوعدي.

 

فعلى خطى ابن بطوطة، وأيتمش المحمدي؛ مبعوث السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى بلاط المغول ببلاد فارس، وكل من سبقهم أو جاء بعدهم؛ كانت خطواتي تأخذني نحو المكان ذاته، في زمان غير الزمان وبصحبة أُناس غير الناس، كادت أنفاسي أن تتوقف أمام بقايا صرح معماري ضخم، شاردة بذهني استرجع ما كتبه مبعوث السلطان المملوكي عن عظمة المكان وثراءه الفني والمعماري. هنا كانت بحيرة ضخمة تسير فيها المراكب، أشجار كثيرة غُرست في صحن فسيح، وفوارة ماء تشبه تلك الموجودة ببهو السباع بحمراء غرناطة، مشايخ وطلاب علم، فقراء في انتظار وجبة غداء، وأطفال في كُتاب يتلقون أساسيات قراءة القرآن الكريم، مسجد ضخم تكسوه بلاطات خزفية يضوي بريقها كالذهب عندما تلامس أشعة الشمس سطحها، محراب ضخم بعمودان من النحاس، آيات من سورة يس عقب صلاة العصر وكأنها تُرتل في أذني بصوت مشايخ بلاد فارس ولكنتهم العربية المصحوبة بإعجام فارسي. أنها بقايا مسجد عليشاه في مدينة تبريز، أو «أرگ عليشاه» كما يسميه أهل تبريز وفارس عامة، والتي تعني بالفارسية «قلعة عليشاه»، دلالة على ضخامة المبنى وسمك جدرانه وضخامة قياساته.

 

تاج الدين عليشاه التبريزي؛ رئيس الوزراء صاحب الديوان الكبير في البلاط المغولي والذي تشارك في الوزارة بعض الوقت مع مؤرخ المغول الأول رشيد الدين الهمداني صاحب كتاب جامع التواريخ في زمن السلطان أولجايتو خدابنده وابنه أبي سعيد بهادرخان. وكان عليشاه صاحب ذلك المجمع المعماري الديني التعليمي والخدمي الذي كان محط الترحال لكثير من رحالة القرون الوسطى، والمبعوثين الرسميين من الدول المجاورة، وإعجاب ودهشة كل من زاره ومنهم باسكال كوست الذي ترك لنا لوحة رائعة رسمها في نفس البقعة التي تقف فيها قدمي اليوم.

إلا أن واحدة من أهم هذه الزيارات كانت في عام 722ه/ 1322م في زمن سلطنة الملك الناصر محمد الثالثة – سلطان مصر – عندما أوفد الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي إلى بلاط السلطان الإيلخاني المغولي أبي سعيد بهادرخان في بلاد فارس: والتي يقول عنها النويري: «في يوم الخميس سابع جمادى الأولى من هذه السنة جهز السلطان الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي الناصري أحد الأمراء مقدمي الألوف برسالة وهدية جليلة إلى الملك أبي سعيد صاحب العراقيين وخراسان وما مع ذلك، فتوجه في هذا التاريخ وأقام بحلب مدة، ثم رسم بتوجهه فتوجه وكان عودة إلى الأبواب السلطانية في يوم الثلاثاء

 

الثامن والعشرون من شعبان من السنة المذكورة».

 

وإذا كان للصور الفوتوغرافية القدرة على إيقاف الزمن وتسجيل أحداث التاريخ في أجزاء من الثانية؛ فالكتابات التاريخية لها القدرة ذاتها، في زمن لم تُخترع فيه آلات التصوير بعد. ففي الوقت الذي لم يكن المبعوث المملوكي أيتمش المحمدي يحمل آلة تصوير حديثة كتلك التي كانت بين يدي، إلا أنه كان يملك ملكة التسجيل الدقيق والوصف الفني والمعماري الذي رسم صورة حية للمكان نفسه. ذلك التسجيل الحي الذي نقله بدر الدين العيني في «عقد الجمان» 844هـ/ 1451م على لسان أيتمش المحمدي قائلاً:

«بنى عليشاه مسجد جامع في تبريز ليس له مثيل، بناه بجوار حمامان عموميان أكثر من رائعين وليس لهما مثيل. وفي عام 722هـ/ 1322م زاره الأمير أيتمش المحمدي أثناء زيارته للسلطان أبو سعيد الذي اتخذه كدويدار وكان يتمتع بذكاء استثنائي وخطاط ماهر، وكتب خطاب أرسله إلى القاهرة وصف فيه مسجد عليشاه قائلاً:

 

عزم عليشاه على بناء مسجده، فامتطى جواده بصحبة المهندسين الخاصين به وذهبوا إلى واحدة من بوابات تبريز تسمى (خرابنده) وأمر ببناء مسجده وفقًا لتخطيط إيوان كسرى، بنفس قياساته من حيث الارتفاع والعرض (10 ذراع)، وفي وسط المسجد (الصحن) يوجد حوض كبير 150 ذراع مبني بأربعة أعمدة تدعم بناء مثمن. على كل جانب منه يوجد حيوان منها أسد يخرج الماء من فمه إلى الحوض. وفي المنتصف يوجد صنبوران يقذفان المياه بغزارة للحوض من مياه بحيرة في تبريز، وبالحوض يوجد أربعة قوارب. ويقول الجميع أن هذه الحوض مزينة بنوع من الرخام يسمى “الموت”. وقد أمر عليشاه المهندس المعماري أن يبني بائكة في الأركان الأربعة للصحن ………. أما محراب المسجد فله قبة وعمودان من النحاس الأسباني مزخرف بالذهب والفضة. وللمسجد أربعة أبواب خارج كل باب يوجد بازار بناه عليشاه. وللمسجد مشكاوات كبيرة من النحاس الجميل مزخرفة بالذهب والفضة».

 

للأسف ما بقي من هذا الصرح المعماري لا يفي برسم صورة واضحة عن تخطيطه وأبعاده بشكل تقريبي على الأقل. ولكن لحسن الحظ فقد احتفظت لنا كتابات بعض المؤرخين والرحالة والجغرافيين الذين زاروا مسجد عليشاه في فترات زمنية متباينة عقب زيارة أيتمش المحمدي، سجلت لنا بعض المعلومات التي قد تساهم في رسم صورة أكثر وضوحًا للمسجد أفضل من الوضع الراهن لما هو عليه الآن. وإن كانت هذه الصورة أيضًا لن تقدم الشكل الدقيق للمسجد ولكنها ربما تفي بالغرض. فقد زار ابن بطوطة مدينة تبريز ومسجد عليشاه في زمن أبي سعيد بهادرخان وذكر:

«ودخلنا سوق العنبر والمسك فرأينا مثل ذلك أو أعظم، ثم وصلنا إلى المسجد الجامع الذي عمره الوزير عليشاه المعروف بجيلان، وبخارجه عن يمين مستقبل القبلة مدرسة وعن يساره زاوية، وصحنه مفروش بالمرمر وحيطانه بالقاشاني، وهو شبه الزليج، ويشقه نهر ماء، وبه أنواع الأشجار ودوالي العنب وشجر الياسمين، ومن عاداتهم أن يقراءوا به كل يوم سورة يس وسورة الفتح وسورة عمَّ بعد صلاة العصر في صحن المسجد، ويجتمع لذلك أهل المدينة».

 

وكذلك كتب جيمس مويير James Morier في زيارته الأولى لتبريز (1808- 1809م) عن مسجد عليشاه قائلاً: «مسجد عليشاه جنوب غرب المدينة ضمن قلعة أو حصن أرگ عليشاه المشتمل على ثكنات ومخزن وذخائر». وذكر في زيارة أخرى في الفترة (1810- 1816م) وصفًا أكثر عمقًا وتفصيلاً، ذكر فيه: «أرگ عليشاه هو المبنى الأكثر جمالاً وإثارة في تبريز الآن … فبقايا المبنى والمتمثلة في كتل الآجر الجميلة التي لا مثيل لها في بلاد فارس وربما في العالم كله تدل على جمال المبنى. وارتفاعها 8 قدم كان الأمير مقرر أن يتخذه كمكان يسكن فيه ولكن بعد ذلك فضل أن يجعله ترسانة (دار صناعة) وكنت مسرورًا جدًا عندما وجدت بضائع أوروبية وتبادل تجاري نشيط .. وبعض السجناء الروس كان يتم احتجازهم هناك».

 

إذًا من خلال كتابات بعض الرحالة الذين زاروا مسجد عليشاه في تبريز؛ يمكننا أن نرسم صورة مفصلة للمسجد حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي؛ فوفقًا للنص الذي أورده ابن بطوطه؛ فمسجد عليشاه لم يكن مسجد جامع فقط بل مجموعة معمارية تضم مدرسة كان موقعها على يمين إيوان المسجد وخانقاة تقع على يساره، والتي عبر عنها ابن بطوطة بمصطلح أهل المغرب بـ «زاوية». ووفقًا لنص ابن بطوطة، فمسجد عليشاه يشبه إيوان كسرى، أي أنه لم يكن يتقدم الإيوان الرئيسي قبة. وللمسجد صحن كبير مفروش بالرخام وجدرانه من «القيشاني وهو شبه الزليج» – والزليج هو مرادف للبلاطات الخزفية في مصطلحات أهل المغرب الإسلامي – إذا كانت جدران المسجد تزخر بتكسية من البلاطات الخزفية. وتبلغ أبعاد الصحن 285× 228م. ووفقًا أيضًا لنص ابن بطوطة فمسجد عليشاه كان يتوسطه بحيرة مياه، وأن الصحن كان مزروع به أشجار الياسمين وأنواع أخرى من الأشجار ودوالي العنب. أما النص الذي أورده أيتمش المحمدي فيؤكد أن للمسجد فوارة ماء بها تماثيل في شكل سباع تضخ المياه من أفواهها. وجاءت إشارات جيمس مويير لتوضح حال المسجد في القرن التاسع عشر الميلادي فقد استخدم لأغراض أخرى، وكان المسجد على وضعه لم تتم فيه أية إضافات معمارية جديدة.

 

كثيرة هي الروايات الكاشفة التي أوضحت لنا سير العمل والبناء وتفاصيل معمارية وفنية مهمة؛ إلا أن الأدلة المادية جاءت لتعزز وتثري ما نقله المبعوث المملوكي أيتمش المحمدي مبعوث الناصر محمد بن قلاوون فقد أظهرت الحفائر التي تمت في موقع المسجد – والتي جاءت مؤكدة لروايات الرحالة والسفراء الذين زاروا المسجد في فترات زمنية مختلفة، وذلك بالعثور على بقايا أعمدة جرانيتية مزخرفة بأشكال هندسية تضم أطباقًا نجمية – إلا أن أهم ما عُثر عليه والذي انفرد بذكره أيتمش المحمدي هو العثور على واحد من هذه السباع التي توسطت صحن المسجد وجاء وصفها في كتاباته.

ففي أثناء جولة واسعة بمدينة تبريز سيرًا على الأقدام وعقب زيارة بقايا مسجد عليشاه، كانت زيارتي لمتحف أذربيجان وتحديدًا بالباحة الخارجية للمتحف والتي احتفظت بكافة المنقولات والأجزاء التي عثر عليها وكشفت عنها الحفائر التي تمت في موقع مسجد عليشاه. هناك، كان لقائي بأحد السباع التي ذكرها أيتمش المحمدي، وحيدًا قابعًا بمفرده يطوي تاريخ المسجد وتفاصيل كثيرة كان شاهدًا عليها. ألقيت عليه التحية وذكرته بما كتبه عنه وانفرد بذكره أيتمش ومدى انبهاره به، ووعدته بأن يومًا ما سوف أقص حكايتهما معًا هو وأيتمش، وها أنا اليوم أفي بوعدي.

 

لكن، لم تنتهي بعد حكاية مسجد عليشاه؛ حيث يعد هذا المسجد نقطة اتصال بين مماليك مصر وبلاد فارس، وبالتحديد بين مسجد عليشاه في تبريز ومسجد قوصون في القاهرة الذي يرجع إلى عصر المماليك. فقد ذكر المقريزي في «المواعظ والاعتبار» أثناء حديثه عن مسجد قوصون: «هذا الجامع بالشارع خارج باب زويلة، ابتدأ بعمارته الأمير الكبير سيف الدين قوصون في سنة ثلاثين وسبع مائة، وهو خارج باب القوس المجاور لحارة المصامدة من الجانب الغربي……. وكان قد حضر من بلاد توريز بناء؛ فبنى مئذنتي هذا الجامع على مثال المئذنة التي عملها خواجا علي شاه وزير السلطان أبي سعيد في جامعه بمدينة توريز».

 

ويستدل من رواية المقريزي أن مئذنتي جامع قوصون قد شُيدت بواسطة معماري من تبريز في سنة 730هـ/ 1330م. وكلا المسجدان تتشابه مئذنتهما. ومما يؤسف له حقًا أنه لا أثر لهاتان المئذنتان، سواء تلك الموجودة بتبريز أو مثيلتها بالقاهرة، فقد ذكر السيد كريزويل في خطاب له مع أحد الباحثين الأوروبيين المهتمين بالبحث وراء هذا المعماري التبريزي خطابًا من القاهرة مؤرخ بتاريخ 11 نوفمبر 1938م عن حالة مسجد قوصون في الوقت الراهن قال فيه: « كان للمسجد مئذنتان واحدة في الجهة الغربية سقطت في يناير 1801م الموافق شعبان 1251هـ وفقًا لما ذكره الجبرتي. وقد سقطت على المسجد ودمرت جزء منه. والمئذنة الثانية أعلى المدخل الجنوبي الشرقي والمدخل مؤرخ بسنة 730هـ/ 1330م. وكانت المئذنة تعلو المدخل ولكن قاعدة المئذنة (ذات مسقط رباعي) ما تزال موجودة، والمدخل و6 درجات منه ما زلوا موجودين. والجزء الجنوبي الغربي من المسجد تم إزالته عندما تم فتح شارع محمد علي وجزء كبير من الجزء الجنوبي الشرقي دمر وبني مكانه مسجد جديد».

 

ومما يؤسف له أيضًا أن مسجد عليشاه لم يحتفظ بكثير من تفاصيله وعناصره المعمارية كما سبق وذكرنا؛ فقد ذكر حمد الله المستوفي أن القبو البرميلي الذي يغطي الإيوان سقط سريعًا عقب بناءه بفترة قصيرة نتيجة التعجل في البناء. وتعرض المسجد لكثير من التخريب والدمار؛ ففي عهد الدولة القاجارية استُخدم المسجد كمخزن لحفظ المهمات والأسلحة. كما تأثر أيضًا بالزلزال العنيف الذي ضرب مدينة تبريز في عام 1780م، ولم يكن مسجد عليشاه هو الأثر الوحيد المتضرر من جراء هذا الزلزال، فقد تأثرت غالبية الآثار المعمارية في مدينة تبريز من جراء ذلك، ومنها الربع الرشيدي وشنب غازان/ غازانية أيضًا. والجزء المتبقي حاليًّا من مسجد عليشاه هو بقايا جزء بسيط من إيوان القبلة – جزء مكشوف لا تعلوه أية تغطية مما كانت في السابق وقت بناء المسجد – وبالتحديد الجزء المتبقي هو جدار القبلة، وأجزاء من الجدارين عن يمين ويسار المحراب وهما يمثلان الجداران التي ارتكز عليها عقد الإيوان فيما سبق. وللأسف الوضع الراهن للمسجد لا يعطينا صورة كاملة عما كان عليه المسجد وقت تشييده. وبالرغم من عمليات الترميم المتعددة التي تمت للمسجد فإن الحفائر كشفت عن القليل من تاريخ المسجد.

 

ويمكننا أن نختتم حديثنا بأحد المحادثات التي دارت بين مجد الدين السلامي؛ تاجر الخاصة السلطاني، الذي كان يعمل في تجارة الرقيق، حيث يجلب الرقيق والمماليك من بلاد المغول للقاهرة. وكان سفيرًا للسلطان المملوكي بمصر الناصر محمد بن قلاوون، وكانت له مساعي مثمرة في عقد الصلح بين المغول الإيلخانيين والمماليك في زمن السلطان أبي سعيد بهادرخان والسلطان الناصر محمد – وقد توفي مجد الدين في عام 743ه/ 1342م – تلك المحادثة التي دارت بينه وبين الوزير تاج الدين عليشاه التبريزي صاحب هذا الصرح المعماري المهم، عندما شرع عليشاه في بناء المسجد؛ فقد قال مجد الدين لعليشاه أن المسجد سيتكلف أموال طائلة، فرد عليشاه: «أن الحكام المغول اعتادوا أن يأخذوا من وزرائهم كل ما أعطوهم إياه في السابق وحياتهم أيضًا. ولهذا فمن الأفضل انفاق أموالي في حب الله وطاعته ويجازيني عنه خير».

 

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *