يفاجئنا الفيلم السعودي “آخر سهرة في طريق ر”، سيناريو وإخراج محمود صباغ، إنتاج عام 2024، والذي يُعرض حالياً على منصة نيتفليكس، بجرأته في طرحه، وبأسلوب واقعي في تناول التغييرات التي تحدث في فترة ما بعد الانفتاح في السعودية، ومن خلال وقائع شبه موثوقة، وذلك في تتبع مقدرات فرقة إحياء حفلات تتكون من 4 أشخاص.
الفيلم، الذي كان قد عُرض في صالات السينما بالسعودية، فاجأ الجمهور هناك أيضاً، حيث لم يكن أحد يتوقع عرض الحياة الليلية وأسرارها في جدة. الفيلم تم تصويره ما بين جدة والرياض، ويتناول، بكوميديا مرة، والإيغال في الواقعية، التحولات الأخيرة والانفتاح الاجتماعي راهناً في السعودية، حيث تدور أحداثه في ليلة واحدة مجنونة، مليئة بالمفاجآت والاضطرابات، مع متعهد السهرات “أبو معجب”، جسد دوره عبد الله البراق، وهو وريث “كاكا القمر” التي كانت مشهورة في إحياء السهرات العائلية والنسائية، وأشهر مطربات الأفراح والبيوت في ماضي جدة الذهبي، حيث يجوب بفرقته ليالي جدة وعوالمها النخبوية والسفلية بمختلف أنواعها، بحثاً عن المال والمغامرة، وإبقاء أهميتهم في وسط التحولات التي تهدد مكانتهم كفرقة على الطراز القديم، وسط هجمة الفرق الموسيقية والراقصة الغربية الحديثة التي تقيم حفلاتها في الصالات الكبيرة، وتجتذب الشباب من كلا الجنسين. وترافقه في رحلته المطربة “كولا سالمين”، جسدتها مروة سالم، ذات الطموح غير المحدود، وبقية أفراد فرقته: “سيلفر” مهندس الصوتيات المحترف، سامي حنفي، وعازف العود “طرفي”، رضوان الجفري.
أحداث فيلم “آخر سهرة على طريق ر” تجتذبك منذ المشاهد الأولى، وتحفزك كمتلقٍ لاكتشاف ما يجري في فيلم سعودي يسبح عكس التيار التقليدي السائد والمكرس في أذهاننا. هنا موسيقى وغناء وسهرات خاصة خلف الأبواب المغلقة بإحكام، وأغنياء صودرت أموالهم لفسادهم، وتعاطي مخدرات وسرقة وضرب على طريقة الأكشن، لكنها مبرّرة. وشابات يحملن جهاز ستيريو ليرقصن ويدخنّ الحشيشة، وتجارة حبوب الهلوسة والمؤثرة عقلياً. وكل هذه المفردات لم تأتِ في قالب تعليمي أو نصائح أو تحذير، بل هي جزء من الممارسات اليومية لدى الشباب وغيرهم من مختلف الأعمار، سواء كانوا رجالاً أم نساء.
والفيلم لا يُلقي اللوم أو ينتقد مرحلة الانفتاح الاجتماعي في السعودية، بل على العكس تماماً، أحداثه تكشف عما هو مستور، وتفضح ما كان مسكوتاً عنه.
المخرج محمود صباغ اعتمد الإيقاع السريع في تنامي الأحداث، لذلك لم يُصبنا كمتلقين أي ملل، وبسبب الأجواء الكوميدية، كوميديا مرة أو قاتمة (أفضل من أن تكون سوداء)، والأداء المتميز واللافت لأبطال العمل، حيث لعب كل واحد منهم دوره بتلقائية، وبلا تكلف أو تَشنج، بحيث لا نستطيع أن نُمايز بين جودة أداء هذا الممثل أو ذاك. والأهم من هذا وذاك هو موضوع أو قصة الفيلم: فرقة إحياء حفلات تنتمي للزمن الماضي، تحاول الاستمرار بكل ما تستطيع عليه. وأضفت اللهجة السعودية لأهل جدة، وهي لهجة تختلط فيها عدة لهجات عربية، جاذبية خاصة، كما أضفت الموسيقى والغناء السعودي التراثي المؤدى بأسلوب حديث، والمنتمي لمدرسة جدة الموسيقية أو الغنائية، أجواء ربطت بين الأحداث وشدّتها فيما بينها.
الجمهور السعودي لم ينتقد الفيلم سلبياً، بل وصفه على منصات التواصل الاجتماعي بـ”أجرأ فيلم سعودي”، وهذه ميزة إيجابية أكثر منها سلبية. كاتب سيناريو ومخرج فيلم “آخر سهرة على طريق ر”، محمود صباغ، تمكن من الإمساك بمفاتيح الأحداث، وبالرغم من تداخلها وتشابكها، لم يدع أي فعل درامي يفلت من بين يديه، بل على العكس من هذا، حوّل التشابك إلى ترابط مسترخٍ، بالرغم من توتر الأمور، وحرك كاميرته باعتبارها إحدى شخوص العمل، متفاعلة، وليست ناقلة أو مراقبة حيادية. قال في تصريحات إعلامية: “أنا أحببت أن أعمل فيلماً درامياً عن العوالم السفلية في جدة، وعن عالم السهر والحفلات المغلقة، وأصررت أن أغوص في هذا حتى التقيت بشخصيات حقيقية في هذا المجال من متعهدي الحفلات و(الطقاقات) ومطربات الأفراح، كي أستطيع أن أنقل القصة بواقعية، وأنقل للعالم قصة فئة بسيطة ومهمّشة من المجتمع، إن صح التعبير، وهم يملكون حضوراً إنسانياً فاعلاً وقوياً مقابل ضعفهم، لهذا تأسرني هذه الفئة”.
الأحداث لا تستمر بتلك التلقائية، ولم تأتِ النهاية على طريقة ختام الحكاية (وعاشوا عيشة سعيدة)، بل فاجأنا كاتب السيناريو والمخرج صباغ بالكشف عن ضعف رئيس الفرقة (أبو معجب) بسبب إدمانه على المخدرات من جهة، وأطماعه في جمع المزيد من الأموال على حساب الآخرين، واستعداده للتخلي عن مبادئه لصالح أنانيته. فهو لا يمانع أن تكشف المطربة كولا عن كتفيها أو جزء من صدرها أمام أحد الأغنياء، ومع أنه يتمناها لنفسه، لكنه يبقى يستغلها. والمطربة كولا التي لا تتورع عن سرقة كل ما تراه أمامها من ذهب أو مال في الحفلات النسائية، والإدمان المفرط لسيلفر الذي يقوده نحو الموت، وحيادية عازف العود الأعمى “طرفي”.. وتأتي الخاتمة على غير ما يتوقعون، ففي حفل لأحد الشيوخ الأغنياء خارج السعودية، وفي حفلة يصلون إليها بواسطة طائرة خاصة، تذهب كولا مع ملحن ومطرب مشهور وقريب من الشيخ الغني، لتجد فرصتها التي طالما بحثت عنها، ووقف أبو معجب في طريقها لاحتكاره لموهبتها وكونها الدجاجة التي تبيض ذهباً له، فيخسرها في النهاية.
يعلق كاتب سيناريو ومخرج الفيلم على الأحداث بقوله: “موضوع الفيلم وطريقة الطرح في أحداثه، فيه نوع من الجرأة، لأن الفيلم ينتمي للمدرسة الواقعية، وكان خياراً فنياً وموضوعياً، والحديث عن جدلية التمثيل كلامها يطول، ووصلنا إلى مرحلة القناعة، لا سيما أن الجهات الرقابية وافقت على هذا الفيلم، فجميعنا نمثل السعودية، وفي نفس الوقت لا بد أن نراعي اختلاف ذائقة المتلقي داخل السينما، وهذه علامة صحية”.
وأردف: “أنا متأثر إلى حد كبير بالمخرج المصري الكبير خيري بشارة، وهو رائد الواقعية في مصر، واكتسبت منه طريقة اللقطات التي فيها بعد تسجيلي، قصص المهمشين وحكايات البسطاء، وهي النوع من السينما التي اخترتها كمخرج وصانع أفلام.. فأنا استمتعت كثيراً في هذا الفيلم، من بداية التحضير وما قبل الإنتاج، وخلال التصوير، وحالياً أنا فخور بتسويقي للترويج وتسويق الفيلم”.