داخل الأزقة الضيقة والأسواق الشعبية المكتظة، وتحت حرارة الشمس اللاهبة أو برد الشتاء القارس، تصارع نساء عراقيات يومياً لأجل لقمة العيش. ليس في الأمر خيار لديهن، بل ضرورة فرضها الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي يزداد قسوة، خصوصاً مع ضعف فرص العمل وغياب مظلة الرعاية الاجتماعية الفاعلة.
في سوق “باب الشرقي” وسط بغداد وسوق “النبي يونس” في الموصل وسوق “الكصرة” في البصرة وحتى في أسواق الأرياف، تجد نساء من مختلف الأعمار والفئات وقد اتخذن من الشارع مكاناً للعمل، يبعن الخضراوات والملابس والخبز أو حتى الشاي، من دون كلل، على رغم ظروف صعبة لا ترحم.
المرأة والبسطة
لم تعد المرأة العراقية مجرد ربة بيت أو موظفة مكتبية كما كان شائعاً في أجيال سابقة. فمع تصاعد نسب الفقر والبطالة اتجه كثير من النساء نحو العمل في الأسواق الشعبية، حيث لا شروط تطلب ولا شهادات يسأل عنها، فقط الإرادة.
أم عمر، أرملة في الـ50 من عمرها تجلس على كرسي خشبي متآكل في مدخل سوق “الشورجة” منذ السادسة صباحاً لتبيع المناديل والبسكويت، تقول بصوت واهن “ما عندي تقاعد، ولا دعم. أولادي صغار، وأعمل لأوفر لهم الغداء والعشاء. السوق ليس سهلاً، بس هو المتاح”.
أما زينب (23 سنة) فقد تركت الجامعة بعد وفاة والدها لتساعد في إعالة إخوتها الخمس. تبيع الأكسسوارات على طاولة بسيطة قرب مدخل سوق بغداد الجديدة في العاصمة العراقية. وتقول “لا أخجل من شغلي وأفتخر بأنني أساعد أمي. الشارع مدرسة، وأنا تعلمت أن أواجه العالم بوجهي وكرامتي”.
يرى الباحث الاجتماعي ياسر عبدالمنعم أن عمل النساء في الأسواق ليس مجرد خيار فردي، بل ظاهرة اجتماعية ناتجة من تفكك شبكة الأمان الاقتصادية في العراق، خصوصاً بعد عام 2003.
ويضيف “الحكومات المتعاقبة لم تضع برامج فعالة لتمكين النساء اقتصادياً، وتمويل المشاريع الصغيرة ضعيف، وشبكات الرعاية الاجتماعية غير كافية، لذا تصبح الأسواق الشعبية ملاذاً اضطرارياً”.
تحرش واستغلال ومزاحمة
العمل في السوق ليس مجرد بيع وشراء، بل معركة يومية ضد الاستغلال والتحرش والمضايقات. تقول أم علي، التي تبيع الخضراوات داخل سوق شعبي “أحياناً شباب يتحرشون أو يضايقوننا بالكلام، وبعض أصحاب المحال يرفضون وجودنا بحجة أننا نأخذ رزقهم، لكننا لا ننافس أحداً ونريد أن نعيش فقط”.
في حديث للمحامية بان النجار تشير إلى أن “المرأة العاملة في الأسواق لا تجد حماية قانونية فعلية، فهي خارج أطر العمل الرسمي، ولا يطبق عليها قانون العمل أو الحماية الاجتماعية، مما يجعلها عرضة للاستغلال والانتهاك”.
ما زالت بعض المجتمعات، وبخاصة في الجنوب والغرب، تنظر باستغراب وربما برفض لعمل المرأة في الأسواق، فالمجتمع الذكوري يربط هذا النوع من العمل بالعيب أو الانحراف، لكن الحاجة تكسر هذه القوالب وتفرض واقعاً جديداً.
تقول سحر (35 سنة) من سامراء “أول ما طلعت للسوق أهلي رفضوا، ثم رأوا أنني محترمة وأصرف على أطفالي. واليوم صاروا يفتخرون بي وصار عندي زبائن يعرفونني من أخلاقي وشغلي النظيف”.
نساء بلا ظهر
بعد الحروب والنزاعات المسلحة وجد آلاف النساء أنفسهن مسؤولات عن أسر فقدت معيلها، لا سيما في نينوى والأنبار وصلاح الدين، حيث تنتشر ظاهرة “النساء المعيلات” اللاتي يعملن داخل الأسواق والأفران والمخابز وبيع المواد المستعملة.
منال من تلعفر فقدت زوجها في الحرب ضد “داعش”، وتعمل اليوم على عربة لبيع الخبز في سوق الموصل، تقول “لا أطلب شيئاً من الدولة، أريد أن أشتغل بكرامة. السوق هو الذي جعلني أظل واقفة ولم أسقط”.
على رغم الجهود المبذولة من بعض المنظمات المحلية والدولية في شأن دعم النساء العاملات من خلال ورش أو قروض صغيرة، فإن الأثر يبقى محدوداً بحسب الناشطة ربى المياحي، التي أشارت إلى أننا “نحتاج إلى برامج دائمة، وليس فقط مبادرات موقتة. النساء في الأسواق هن عماد أسر كثيرة، ويجب أن ننظر إليهن بعين الدعم لا الشفقة”.
وتقترح بعض المبادرات الناشئة كمنصة “رائدة” إنشاء أسواق مخصصة للنساء توفر بيئة آمنة لبيع منتجاتهن، وتحميهن من العنف والمضايقات.
هل من حلول؟
يرى متخصصون في التنمية المجتمعية أن تمكين النساء العاملات في الأسواق يحتاج إلى تدخلات متعددة، منها تسجيل البائعات ضمن مظلة الحماية الاجتماعية، وتقديم قروض صغيرة من دون فوائد، وتوفير أماكن مخصصة للنساء في الأسواق، فضلاً عن سن قوانين تحمي العاملات في القطاع غير الرسمي، كذلك توفير حضانات متنقلة لأطفالهن أثناء ساعات العمل.
في كل زاوية من أسواق العراق تقف امرأة شامخة، تواجه الحياة بشجاعة. قد تبدو بسيطة في مظهرها، متعبة في خطواتها، لكنها أقوى من كل الظروف. هي لا تطلب صدقة ولا تنادي بالعطف، بل فقط فرصة وكرامة وحقاً في الحياة.
أولئك النسوة هن العمود الخفي للاقتصاد الشعبي العراقي، ووجه العراق الكادح الحقيقي. وحين يكتب تاريخ هذه المرحلة سيكون لهن فيه سطر من ضياء.