الإعلام في قبضة السياسة.. الانزلاق نحو فقدان البوصلة والهوية

زينه عبدي

أشارت تصريحات وزير الإعلام السوري خلال كلمته، بمناسبة يوم سقوط النظام البعثي العفلقي في 8 ديسمبر الجاري، إلى التحذير المباشر من خطورة الاستغلال والاستثمار المتعمد للصحافة والإعلام في ظل المرحلة الانتقالية، من قبل اللاعبين في المشهد السياسي. لذا هذا التحذير لا يقرأ بمنأى عن الضعف البنيوي في البيئة الإعلامية التي تتصف بسهولة التسييس وعدم الاستقرار. لكن، أليس من واجب وزارة الإعلام السوري تفعيل دورها الرقابي دون الإطاحة بالحريات الصحفية، ومراقبة المحتوى الإعلامي على البقعة الجغرافية، ومصادرة كل ما يحض على خطاب الكراهية من قبل الفاعلين السياسيين على منصاتها الإعلامية لا سيما في الإعلام المرئي؟
هشاشة الفضاء الإعلامي
ضمن السياق العام السوري، لا يمكننا الفصل بين المشهد السياسي ذي الحساسية الجسيمة والفضاء الإعلامي المليء بالاستقطابات الحادة والخطابات الهشة. الممارسات الإعلامية الملاحظة حالياً ولا سيما في دمشق تعكس هشاشة المعايير المهنية والأخلاقية في ظل غياب مدونة السلوك التي تترك قلقاً أخلاقياً كبيراً، فبات الإعلام بموجبها ملعباً للتجاذبات السياسية عبر توجيه خطابات إلى الرأي العام وفق أجندات محددة وبمنهجية مدروسة للصالح الخاص بمنأىً عن إيلاء اهتمام للصالح السوري العام.
على سبيل المثال، باتت قناة الإخبارية السورية منصة ذات خطاب لا إعلامي لا سيما عبر إحدى برامجه “فوق الطاولة”، حيث انتقائية الضيوف وفقاً لأجندات تلمع صورة السلطات الانتقالية، وهذا أكبر خطأ يرتكبه الإعلام السوري الحالي لأنه يعيد إنتاج نفس المشهد الإعلامي كما السابق. اختيار وطرح المواضيع بالمستوى النوعي، ولكن أن يبدأ النقاش والحوار حتى يفقد عنوان الطرح قيمته ومصداقيته بسبب غياب مهارات الحوار التي يجب أن يتحلى بها الصحفي المحاور، وكيفية إدارته لأطراف الحوار التي تتصف بانحيازات فئوية ضيقة من شأنها خلق حالة عدم الاستقرار بين الضيوف أنفسهم وبين الضيف والمحاور، ما يعزز لدى الجمهور والمتابعين شعورا بالتمييز المتعمد والإقصاء لجهة على حساب أخرى.
البرنامج على قدرٍ من الأهمية إن تمعَّنا فيه، فهو يطرح عديد الأفكار العميقة ويعكس المستوى الفكري الجاد، إلا أنه يلمِّع ما يحلو له ويجرِّم ما لا يحلو له بالطريقة التي يريدها، وهذا ما لا أعتبره إعلاماً بالمطلق، لأن جوهر الرسالة الإعلامية هي نقل الحقيقة بدقة ومسؤولية، وأن تصبح كل منصاته منبراً لضمير المجتمع لا أداة ارتزاق بيد الفاعلين السياسيين أو تحوله لفضاءات الصراع والاقتتال بدلاً من كونه ساحة حقيقة وعلى رأسها محاسبة السلطات وليس تلميع ممارساتها.
تسييس الخطاب
ما يطرح التساؤلات المفصلية حقاً هو أنه لا يمكننا فصل الإعلام عن السياسة، ولكن كيف يمكن للسلطات الانتقالية ووزارة الإعلام ،والمؤسسات الإعلامية السورية تحقيق حالة من التوازن في أداء المهام الإعلامية ورسم الخط المهني والأخلاقي بين الدورين الإعلامي والسياسي، دون إفراغ أي منهما من استقلاليته أو تسييل الإعلام في السياسة، أو انتهاك تلك المسافات وتحويل كل منهما لأداة نفوذ عبر التوظيف الممنهج؟.
في هذا السياق، نلاحظ أن الإعلام يمارس دوراً سياسياً أكثر منه رقابياً، ما يشكل خطورة عميقة في مستقبل الإعلام السوري، فالمنصات الإعلامية صارت أداة لإعادة إنتاج واكتساب الشرعية بيد السياسيين، بل وربما ساحة لتصفية الحسابات، حيث درجة التسييس باتت مرعبة أكثر من ذي قبل عبر بعض المؤسسات الإعلامية التي يمكن اعتبارها الرسمية لأنها ناطقة باسم السلطات الانتقالية في دمشق، ما يقوِّض مدى الاستقلالية المهنية أمام الجمهور والمتابعين.
البيئة الإعلامية الحالية بين الارتباط الوثيق بالسلطات الانتقالية التي تتبنى خطاباً رسميا،ً وتعدد الساحات الإعلامية (رقمية كانت أو تقلدية) ذات الاضطلاع في آراء ومواقف متضاربة مع نفوذ سياسي آخر مضاد، يجعل الإعلام في إطار(خبر كان)، بل ويصبح هو الخبر بحد ذاته، وتُختَرق كافة الحدود التي رسمت للفصل بينهما، ويُستدل بها تلك السرديات التي تدار بتوجهات أصحاب المصالح، ما يعكس تهالك ثقة الجمهور بالمحتوى الإعلامي وصناعها، وبالتالي الانتقال من مسؤولية رقابية لأداة استقطاب واستعلاء، وخطاب يكرس التفريق ويعمق الانقسام عوضاً عن تقديم الحلول ومعالجة ما يُطرَح.
من جانب آخر، الثقة بالإعلام صارت على حافة الخطاب نتيجة تراكم وتكثيف الخطابات الإعلامية المسيسة، وتقييد الحريات الإعلامية كما حصل مع الإعلامي إياد شربجي قبل يومين واعتقاله دون مذكرة رسمية أو توضيح من الجهة المعتقلة، وغياب التعددية في المشهد الإعلامي بإطار حقيقي، ما أثر بصورة سلبية على خيارات الجمهور بل وفقدان المصداقية. إعادة إنتاج قصص خدمةً للمصلحة الخاصة سواءً عبر مؤثرات داخلية أو خارجية، غياب الإعلام المستقل نوعاً ما واستخدام الإعلام كسلاح على المستويين السياسي والنفسي بغية التأثير على معنويات أي طرف يتبنى خطاباً معاكساً. الانقسام الإعلامي حاليا يفاقم أزمة الثقة والاستقطاب بين كافة الأطراف، ويحد من المسؤولية تجاه الكلمة والمصطلحات المستخدمة في المنابر الإعلامية، ما يجعل الإعلام ساحة حرب الكلمة، التي تعد أشرس الحروب وأعمقها ضرراً، لا سيما بيد الفواعل السياسية.
وفي المقابل، في ظل التغييب شبه الكلي للعدالة الانتقالية( فيما يخص الصحفيين والصحفيات لا سيما حالات الاختفاء القسري)، يمكن تفسير الإعلام الخاضع للفاعلين السياسيين بالعدالة الانتقالية الغائبة أو المنقوصة، وهذا ما يمكن عده جوهر استمرارية جرائم الاختفاء القسري بحق الصحفيين والصحفيات، وعلى رأسها اختفاء الصحفي الكوردي فرهاد حمو منذ 11 عاماً دون تحريك من السلطات قبل 8 ديسمبر وإلى الآن في ظل الحكم الانتقالي بدمشق، فتكون النتيجة تغليب دور السياسيين التابعين لأجندات معينة على الصوت الناقل للحقيقة، بل وحمايتهم وطمس الحقيقة وتكريس الإفلات من العقاب، وبالتالي يصبح المشهد في دوامة التغيير، حيث تبديل المواقف بالإكراه والانفصال عن الواقع والحقيقة.
من يحمي؟
لضمان استمرارية الإعلام في نقله للحقيقة بما يتماشى فعلياً مع المصلحة العامة، يتوجب حمايته من أي انتهاك وفق ما يلي: سن تشريعات وقوانين من شأنها أن تكفل الحريات الصحفية عبر أطر قانونية تتمتع بنوع من الاستقلالية والشفافية، وتؤمن الحماية في حال التعرض للانتهاكات الصحفية لا سيما تلك التي تندرج تحت بند السياسة والأجهزة الأمنية. وجود ضامن حقيقي للمساءلة والرقابة داخل القطاع الإعلامي( رغم أن دوره الرئيسي هو الرقابة) لبناء جسر الثقة بين الإعلام وجمهوره عبر مؤسسات مستقلة حول مدى التقيد بالمعايير المهنية والأخلاقية بما يضمن عدم التزييف والتضليل والكراهية.
من جانب آخر، ولرفع السوية المهنية وجودته التي ستحد بلا شك فرص الاستثمار والاستغلال من قبل المسيسين أو اللامهنيين، يفترض بل واجب على الصحفيين تفعيل دورهم الحقيقي وأخذ المسؤولية الكبرى على عاتقهم في حماية مهنتهم ومنع استغلالها من قبل أي طرف كان سياسياً أو مهنياً، وسيدعمهم في هذه الجزئية الجمهور ومنظمات المجتمع المدني التي تعتبر صلة الوصل بينهم وبين الإعلام في طرح قضاياهم في كثير من الأحيان لا سيما كورقة ضغط عليه من خلال المساءلة والتفرقة بين المحتوى المضلل والكاذب، ما سيشكل لدى الجمهور وعي تام لخلق بيئة مناسبة وعلى وجه الخصوص للإعلام المستقل.
حماية الإعلام لا يمكن قولبتها كما تشاء جهة واحدة فقط، بل ثمة جهات مختصة بالحريات الصحفية، بما فيها الحرية العامة، بإمكانها لعب دور جوهري داخل المناطق التي تشهد تقييدا وتضييقاًعلى حرية الرأي والتعبير والحريات الإعلامية وحقوق جميع العاملين في القطاع الإعلامي، عبر ضغوط من المجتمع الدولي، والتحرك قانونيا في سبيل سلامة الإعلام ودعمه بما يخدم المجتمع بشكل حيوي.
في الختام، في ظل هشاشة الخطاب والسرديات الإعلامية ورفع نسبة التسييس الإعلامي، يطرح السؤال نفسه بتمرد وتجرد: لِمَنْ يعمل الإعلام السوري؟ من يتحكم ببوصلته؟ من يحدد مساره؟ حيث رسم الملامح وفرض الحدود. فحين يفرغ الإعلام من محتواه الحقيقي، والصراعات السياسية هي من تقلب الطاولة عليه في رسم سقفه وحدوده، هنا يكون الإعلام بشكل مباشر وبلا ضباب هو مَن يكون الضحية أولا وأخيراً نتيجة فقدانه لركائزه الأساسية من المساءلة والتوازن. صون الإعلام وحمايته في خضم هذا التسييس بمعايير واحدة داخل المشهد السوري المعقد والهش على جميع المستويات ،من المفترض أن يكون على رأس أولويات السلطات الانتقالية بما يليق بصوت الناس لا بصوتها، للدفع نحو تحصين ما تبقى من الإعلام وحراسته على المدى الطويل لبلورة إعلام حقيقي. الإعلام الانتقالي يُعتبَر كفرصة وإشكالية بآن واحد، فهل سيكون امتداداً لمطامع ونوايا متصارعة تعزز خطاب الكراهية والاستقطاب السياسي عوضاً عن تجاوز الانقسامات والأزمات؟