زينه عبدي/ الرافد

في خضم اللحظة الانتقالية التي تمر بها سوريا، لا يمكن قياس مدى التغيير المسؤول والملموس بالواجهات الجديدة في السلطة الانتقالية والخطابات التي تصدرها يوماً تلو الآخر، وإنما بقدرة الفواعل السياسية على إدارة الملف السياسي السوري بما يناسب السياق السوري الراهن، والسعي لإعادة ترتيب البيت السياسي من جديد وتفتيت ما تبقى من النموذج السابق الذي أودى البلد إلى الكارثة المليئة بالأزمات والصراعات من كل حدب وصوب، التي كانت محكومة بعقلية مركزية منشغلة بعالمها الداخلي فقط لا تولِ أي اهتمام بالآخر المختلف الخارجي من بني جلدته.
عقلية الاجتثاث التي كانت تسد أي باب يقدم أفكار معاصرة تدعو للمصالحة والشراكة الحقيقية كما اللامركزية السياسية التي كانت تعد، ولاتزال، من الموبقات السبع. فهل، في ظل العمى السياسي الذي نحن بصدده الآن لاسيما تجاه المسألة الكوردية وإباء اللامركزية السياسية بوصفها مؤسِسة للاضطراب وعدم الاستقرار، يمكن طرح ما يدعو إلى حل سياسي حقيقي انتقالياً في خطوة للبناء لا للهدم؟
شكلاً لا مضموناً
بات العجز عن مراجعة النموذج المركزي القديم شكلاً من أشكال العمى السياسي السوري بسبب التجاهل المتعمد لفكرة أن الأزمة السورية كانت نتيجة شكل الحكم في البلاد، لكن الحقيقة هي الاختلالات المتوارثة في ذهنية البعث على المستوى السياسي الهش والأحادي الجانب.
تُطرح فكرة الانتقال حالياً على أنها إعادة ترتيب للسلطات وتوزيعها وتبديل معاييرها استناداً لشكل الحكم السابق، لا التركيز المعمق على إعادة تعريف حقيقية لمفهوم الدولة في هذه اللحظة الفاصلة، ما يضع الخطاب عن البناء وإعادة الإعمار السياسي وتلف ما تبقى من التحديات البنيوية في طي التأجيل شاء الشعب أم أبى. على سبيل المثال، يمكن إبراز هذا الخلل من خلال ما يتم تداوله من قبل السلطات الانتقالية من مصطلحات وتعابير فضفاضة عن الشراكة سياسياً وعسكرياً وإدارياً بالمعنى العام كما السابق دون ترجمة حقيقية وفعلية دستورياً وقانونياً، وبمجرد طرح فكرة اللامركزية السياسية ضمن الحوارات بين السلطة الانتقالية في دمشق والأطراف الكوردية، فإنها تجابَه بالرفض المطلق كونها مصدر للتقسيم والانفصال دون الولوج في محتوى المفهوم الذي يتعمق في الوحدة أكثر من أي تفسير أو معنى آخر.
ما يدل على رفض فكرة اللامركزية السياسية هو عدم الخوض في حوار وطني جامع وفقاً لعملية دستورية تجمع لا تقصي ويسمع فيها الجميع صوت الجميع بالاستفادة من تجارب بعض الدول التي اعتمدتها كالولايات المتحدة الأمريكية، العراق، إسبانيا، ألمانيا وسويسرا والبوسنة والهرسك. جميعها أثبتت أن اللامركزية السياسية ليست تعزيز التقسيم بل ترسيخ فكرة وحدة البلاد عبر الاعتراف بالتعدد والتنوع الذي يحقق الاستقرار الدائم عبر إطار دستوري وطني.
في السياق ذاته، يبرز العمى السياسي بوضوح تام في سوريا من قبل دمشق حينما تصر على شكل الحكم الذي يتجاهل الانتقال بصورة حقيقية من تغيير عقليته عبر أدوات جديدة تناقض السابقة، التي كانت سبب استمرار حقبة الجور والطغيان في عهد الأسدين بنكهة عفلقية شديدة التسلط، العمى الذي يؤسس لمرحلة جديدة من تمدد التعسف والاستبداد عبر تعميق فكرة المركزية التي تؤدي للانقسام تاريخياً وعرقياً ولغوياً وفكرياً.
حضور مقلق لا شريك سياسي
يشكل الكورد في نظر السلطات الانتقالية تهديداً مباشراً لها عبر خطاباتها السياسية الرسمية، ما يبعد فكرة الشراكة السياسية الحقيقية في بناء سوريا الجديدة معتبرةً وجودهم هاجساً للاضطراب والفوضى السياسية لا يمكنها احتواءه بوصفه ينذر وبشكل مباشر مطالب الكورد السياسية، التي يعدونها مسألة خلافية قابلة للتأجيل وحلها فيما بعد، لكن النظر في هذا الأمر بات مستحيلاً كون القضية والمسألة الكوردية في أوج تقدمها وفرض هيبتها غير القابلة للتجاهل على الإطلاق إقليمياً ودولياً، بل باتت هي الأولوية ويستوجب إدراجها ضمن الحوارات كطرف رئيسي غير قابل للمساومة أو التفاوض لا سيما فيما يتعلق بشكل ونظام الحكم.
حضور الكورد الباعث للقلق بالنسبة لدمشق، يُعتبر تفصيلاً جوهرياً في عملية العمى السياسي الذي تواجهه بالتحجيم لا كشريك أساسي في الحل السياسي السوري، ما يجعل عملية البناء السوري عرضةً للانهيار والتفكك ورهينة الإقصاء الأمني أكثر منه استراتيجية سياسية، حيث الإشارة المستمرة لشمول الجميع، إلا أن الأفعال تناقض تماما الأقوال كما جرى في مؤتمر الحوار الوطني دون تمثيل حقيقي للكورد، رغم حضور بعض الأفراد من المكون الكوردي الذين يرفضهم الوسط والشعب الكورديين بلا منازع. صياغة الدستور السوري برؤية أحادية الجانب دون الأخذ بعين الاعتبار وجود الآخر المختلف واحتوائه داخل الدستور، وكذلك الانتخابات التي جرت بوصفها خطوة جادة وفعلية تدفع نحو التمثيل السياسي وكسب الشرعية، لكن الآلية التي نُفِذت بها عكست بوضوح تلك العقلية مجدداً، حيث الحضور الشكلي للكورد بمنأى عن مطالبهم المحقة حول اللامركزية السياسية ضمن البرامج الانتخابية، وفي ذات الإطار تم استبعاد مناطق روجآفايي كوردستان( شمال شرق سوريا) بأكملها عن العملية الانتخابية، ما يعني ضعف بالنيابة السياسية للمكون الكوردي والتغييب التام للعدالة الذي أجهض نتائج العملية الانتخابية وأفقدها شرعيتها بالمطلق.
عائق أمام العدالة الانتقالية
أي خطوة للعدالة يبعد الكورد عن مسارات الحل السياسي سيعمق الفجوة بين الكورد ودمشق، ما يعطل وبقوة دروب العدالة الانتقالية الشاملة في البلاد التي لا يمكن فصلها عن مفاصل العملية السياسية، ما يمنحها عمىً تعتمد الذهنية المركزية التي تفشل سائر المحاولات والمبادرات الداعية للسلام والبناء. الاعتراف بالهوية الكوردية هو شرط جوهري لا يمكن التنازل عنه للسير نحو أية تسوية سياسية سورية، وبدونه سيظل الكورد ومناطقهم بمنأى عن إطار الدولة السورية. استبعاد الكورد عن المشاركة في رسم ملامح المشهد السياسي السوري يؤكد عمق العمى السياسي لا سيما فيما يتعلق بالدمج والإصلاح المؤسسي وعلى وجه الخصوص الأمني والعسكري(قوات سوريا الديمقراطية) بصورة حقيقية وليست رمزية فقط، وغير ذلك ما يدار الحديث عنه يعتبر ضرباً من الخيال، بل ويمكن اعتباره من وجهة النظر الكوردية ظلماً مستحدثاً واستبداداً للقومية والوجود الكوردي.
لا يمكن اعتبار ما يرافق المسألة والقضية الكوردية من عمى سياسي، على أنه سجل حقوقي في سياق العدالة الانتقالية في سوريا، بل هو امتحان حقيقي لقدرة السلطات الانتقالية والأطراف السورية الأخرى في تعاملها حول كيفية بلورة الشراكة الحقيقية للمكون الكوردي ضمن مراحل بناء سوريا الجديدة. فمحاولة القفز فوق أحقاب من الظلم والقمع والتهميش عبر منهجيات مدروسة يمكننا تسميتها بالمظالم التاريخية للشعب الكوردي كسياسات الحزام العربي والإحصاء الاستثنائي سنة 1962 (تجريد آلاف الكورد من الجنسية السورية)، بالإضافة إلى تغييب اللغة الكوردية بشكل متعمد كونها كانت تهدد وجودهم، لن تمكننا من المضي قدماً نحو البناء.
ختاماً، إن العمى السياسي في المشهد السوري الانتقالي ليس قصوراً في الفهم أو الرؤية المصاحبة له، بل هو منهج يتعمد الإصرار على ممارسة التهميش والإقصاء التي أوصلت سوريا إلى ساحات الحرب. تجاهل الكورد عن اللبنة الأساسية في مسار العدالة الانتقالية، ينقلها من أداة بناء وسلام وشراكة لأداة بلورة الصراع من جديد. ولا يمكن اعتبار العدالة الانتقالية حقيقية مالم تكن ذات رؤية سياسية جامعة وشاملة لجميع المكونات وعلى رأسهم الشعب الكوردي، ودون ذلك سيدفع سوريا نحو الهاوية تتناوب فيها الصراعات والأزمات. في ظل العمى السياسي الحالي، كيف يمكن لمسار الحل السياسي التصدي له، وخلق الثقة المطلوبة بين السلطة والمكونات، التي تُعتَبر حجر الأساس للشراكة الوطنية الفاعلة؟.














