
زينه عبدي/ الرافد
مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011 المرفقة بتغيرات عميقة في بنية البلاد بما فيها تعثر مسار العملية السياسية، طرح الكورد ملفهم كأحد أشد القضايا تعقيداً وتعسراً وحساسية، ورؤياهم الحقيقية لإدارة الدولة كصيغة لإنقاذ سوريا المتهالكة والممزقة تقوم على تقاسم السلطات واللامركزية الشاملة، مطلقين حوارات تتمحور حول بدائل الحكم الممكنة مستقبلاً.
في هذا السياق برز الكورد، في ظل المرحلة الانتقالية بعد سقوط المنظومة الأسدية، ضمن المشهد السوري كقوة فاعلة أساسية اجتماعياً وعسكرياً وسياسياً وإحدى المكونات الرئيسة للنسيج الوطني السوري داخل مشروع بناء الدولة السورية، وذلك خلافاً للسابق حيث حضورهم السياسي المحدود على مدار عقود من الزمن العفلقي والأسدي المحكوم بسياسات حزب البعث المركزية ذات الإقصاء والتهميش الممنهج.
يطرح الكورد مشروع اللامركزية والذي يُعتبر شكلاً من أشكال الفيدرالية كأفضل خيار ليس فقط للكورد وإنما لسوريا بكافة أطيافها. طرح هذا النموذج في سوريا المثقلة بالانقسامات الداخلية يقف على مفترق طرق: إما أن يصبح إطاراً للديمقراطية والتشاركية العادلة لمختلف المكونات السورية وإعادة تنظيم العلاقة بين المركز والأطراف، أو يبقى حبيس السجالات السياسية كما الآن بسبب التخوف الداخلي من تقسيم البلاد كما يروج له الرافض لفكرة المشروع، وأيضاً بسبب الرفض من بعض القوى الإقليمية المتصارعة على الأرض لأي حكم ذات طابع قومي يهدد الوحدة السورية.
مشروع سياسي
منذ اندلاع الأزمة السورية، يسعى الكورد لتشكيل رؤية حقيقية في الملف السياسي تمتد لتشمل نظام حكم جديد قائم على اللامركزية السياسية خلافاً للمطالب التقليدية السابقة كالاعتراف بالهوية والحقوق الكوردية المدنية. طرح هذه الصياغة وبلورتها لم يأت من فراغ إطلاقاً، بل هي نتيجة دراسة معمقة وشاملة للمراحل السابقة من الحكم المركزي المستبد والصارم الذي همش كافة الأطراف عن طريق تغييب العدالة في التوزيع سواءً بالثروات أو السلطة.
تعد اللامركزية ضمانة حقيقية لحقوق الكورد السياسية والثقافية واللغوية لأنها بنظرهم تشكل إطاراً دستورياً يمنحهم فرصة لإدارة وتيسير قضاياهم بالتوازي مع وحدة الأرض السورية. وهو مشروع لا يخص الكورد وحدهم رغم أنه طرح منذ البداية من القوى الكوردية، فقد قدمه الكورد كخيار شامل للجميع واعتباره حلاً سورياً جامعاً يخدم دون إقصاء وكأقرب مثال له هو نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية في روجآفا (شمال وشرق سوريا) الذي يضم هويات متعددة تمثل مكونات المنطقة أجمع.
يطرح الكورد هذا النموذج الأقرب للفيدرالية في سوريا استناداً لتجارب مميزة في العالم التي أثبتت أنها لا ترمز أو تشير إلى الانهيار أو التفكك داخل الدولة الواحدة بل إلى الاستقرار وخلق حالة من التوازن كما التجربة بالنسبة لإقليم كوردستان العراق (جنوب كوردستان) الذي بات يتمتع بصلاحيات واسعة يكفل حقوق الجميع على أرضها، وأيضاً النموذج السويسري والألماني اللذان يعتبران من أفضل النماذج الفيدرالية المستقرة رغم التنوع الهائل، إلا أنها ظلت محافظة على وحدتها أثناء تطبيق النظام الفيدرالي ولاتزال.
من وجهة نظري، اللامركزية السياسية هي الحل الأمثل والجذري لأزمة الحكم في سوريا الجديدة، فهي بديل عن الحكم المركزي الخانق الذي ولد أزمات جسيمة داخل العمق السوري. بمعنى أنها تعتبر أداة فاعلة للحد من الصراعات والنزاعات القومية والمذهبية والطائفية وبلورة حالة أكثر توازناً عبر عقد اجتماعي جامع جديد يتيح إشراك ومشاركة السوريين على اختلاف انتماءاتهم وهوياتهم التي لاتزال وإلى الآن معضلة أساسية تبعد النسبة الأكبر عن لعب دورهم الحقيقي في القرار السياسي على سبيل الحصر.
التحديات العملية
تعتقد السلطات الانتقالية في سوريا حالياً أن طرح فكرة اللامركزية السياسية أو الفيدرالية هو تقسيم لسوريا ولذلك ترفضه، ما يعني أنها متمسكة بالمركزية التي فتكت بجسم الدولة السورية على مدد زمنية طويلة، وذلك عبر خطابها الرسمي الذي يتناول وباستمرار عبارة “سوريا واحدة وسنعمل على توحيدها” دون إشارة فعلية للاعتراف الحقيقي بالحقوق القومية للشعب الكوردي أو حتى أي مكون آخر.
هناك مخاوف واسعة من بعض القوى السياسية السورية من تطبيق اللامركزية السياسية أو الفيدرالية، ظناً منهم أنها ستقسم البلاد بصورة فعلية، وكذلك تخوف من اعتبارها امتيازاً قومياً للشعب الكوردي من قبل بعض المكونات من العرب والآشوريين والسريان والتركمان وغيرهم يضيق الخناق أكثر. الغياب شبه التام لحملات تفسير وتوعية بمفهوم الفيدرالية والمصطلحات المرتبطة بها، يجعل الحالة مربكة وغامضة عند الحديث عن هكذا طرح لدى الشعب وتبقى غير قابلة للنقاش بنسبة كبيرة.
البنية الدستورية والقانونية هي الركيزة الأساسية لبناء أي مشروع لامركزي أو فيدرالي، إلا أنه لاتزال سوريا بدونها، وغيابها يشكل أحد أبرز التحديات أمام تطبيقه، لذلك وإلى الآن الطرح هو بمثابة رؤية سياسية دون تطبيق. الدستور السوري الحالي لا يشير إطلاقاً إلى ما له صلة بنظام لامركزي أو فيدرالي، ومؤسسات الدولة الإدارية والقضائية غير مصممة على أسس التقاسم والأنظمة اللامركزية التي تحتاج إلى إعادة صياغة شاملة للدستور عبر تحديد الصلاحيات بين المركز والأطراف وإقرار دستور جديد على أسس المواطنة والتعددية والاعتراف بالهويات الموجودة، ووضع آليات قانونية لضمان استقلال السلطات المحلية في الإدارة والموارد والتشريعات. ما يعني في ظل الغياب التام للتوافقات الوطنية على شكل وإطار الدولة القادمة، والاستمرار في الحكم المركزي، سيبقى طرح فكرة الفيدرالية واللامركزية معلقاً بين مسار سياسي معقد ودستور غامض مجهول الهوية.
هناك ضغوط إقليمية تعارض بشدة فكرة اللامركزية السياسية أو الفيدرالية وأبرزها تركيا وإيران، حيث الخشية من تمدد النفوذ الكوردي بالمنطقة وبالتالي نقل التجربة إلى الكورد في كلا البلدين وتعزيز أي نزعة من شأنها تحفيز الأقليات لديها، بالإضافة إلى العراق الذي بات يتعامل بحذر شديد مع هذا الطرح في سوريا خوفاً من زعزعة الاستقرار. غياب توافق دولي وتباين في المواقف والآراء كما الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حول فكرة المشروع يبقيه بلا مظلة دولية.
الآفاق المستقبلية
يمثل الطرح اللامركزي السياسي أو الفيدرالي في سوريا أحد أكثر الأفكار واقعية وقدرة على إعادة بناء سوريا بصيغة أكثر تماسكاً بعد أعوام من الحرب والصراع، رغم انسداد الأفق السياسي وتشتت قواها وما يرافقه من عقبات قانونية وإقليمية. تجربة الحكم المركزي في سوريا أثبتت عدم صلاحيتها وفشلها والعودة إليها لم تعد بالإمكان، وأن بناء سوريا الجديدة يحتاج ركائز من المواطنة والعدالة والتشاركية التي تحد من الاستبداد وتفعل الوعي المجتمعي بحقوقها قانونياً ودستورياً. ومن هذا المنطلق، بإمكان اللامركزية السياسية (الفيدرالية) خلق حالة من التوازن بين سوريا موحدة وخصوصية جميع مناطقها، والتأسيس لنموذج عقد اجتماعي يضمن المساواة والمواطنة. مستقبل هذا المشروع ونجاحه مرهون بالقدرة على تحويله إلى مشروع وطني سوري جامع ومعالج لأزمات الحكم في الدولة من قبل السوريين والسوريات، والإدراك التام بقبوله كحل واقعي يكفل بناء سوريا واحدة موحدة ومتنوعة بذات الوقت. وإذا ما طُبق هذا النموذج عبر إرادة وطنية شاملة ودعم دولي، فإنها ستكون بداية لولادة سوريا جديدة بمنأى عن التهميش والإقصاء.
في المحصلة، لا يمكننا النظر إلى هذا المشروع على أنه طرح كوردي محض بمنأى عن المشهد السوري العام، أو اعتباره مطلب قومي كوردي فحسب، بل هو استجابة واقعية لمعضلة بنيوية استمرت لعقود طويلة، ومحاولة للتعريف بالدولة الجديدة بصيغة جامعة. ورغم التعقيدات والتباينات في المشهد السوري، إلا أنه يبقى وعداً بانطلاقة جديدة لدولة مواطنة تتسع للجميع، واحتمالاً موضوعياً قابلاً للحوار والنقاش فيه بجرأة لبناء دولة عادلة ديمقراطية لامركزية لا إقصائية على أنقاض الماضي.