الرافد/ زينه عبدي
منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهايته، رأى العالم سلسلة من الجرائم ضد الإنسانية زلزلت الوجدان والوعي الأخلاقي العالمي، متحدية مبادئ وأصول القوانين الدولية. بين مجازر الأرمن في خضم حكم الدولة العثمانية عام 1915، وحملات الأنفال الممنهجة في ظل نظام حزب البعث العربي الاشتراكي العفلقي بقيادة صدام حسين وعلي حسن المجيد ضد الكرد في جنوب كردستان( شمال العراق) بين عامي 1986 و1989، ينطق التاريخ ويشهد أن الإبادة الجماعية لم ولن تكون حدثاً عابراً، وإنما جريمة مخططة مسبقاً للنيل من الوجود والهوية معاً. ورغم الفارق الزمني والسياق السياسي والتاريخي المختلفين للإبادتين، إلا أن رابطاً يجمعهما وبات يطرح مقارنة غنية بالدلالات والمعاني متمثلاً بالإطار القانوني التي تولي أهمية وأولوية للتعريف بالمجازر الجماعية من جهة، وكذلك بمسار الاعتراف الدولي بها بغية تعويض الضحايا حقوقهم المسلوبة كما البقية من جهة أخرى.
البنية القانونية لجرائم الأنفال
تعد جرائم الأنفال المنفذة من قبل صدام حسين ونظامه البعثي ضد الكرد، مثالاً فاضحاً لجريمة الإبادة الجماعية بمعناه الدقيق وفق ما ورد ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمنع هكذا جرائم والمعاقبة عليها 1948. حملة الأنفال حملت بمحتواها حلقات متتالية من الأفعال التي تجرَّم التي يمكن توصيفها بأفعال إبادة كما هو منصوص في المادة الثانية من هذه الاتفاقية، أبرزها القتل العمد عن سابق إصرار وترصد بصورة جماعية بحق الألوف من المدنيين والمدنيات من الشعب الكردي بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السن، تدمير البنية التحتية وتهجير الأهالي نحو معسكرات في الصحراء وإخضاعهم لظروف قاسية لا سيما فيما يتعلق بالموارد الأساسية بغية تدميرهم بشكل جزئي أو كلي. الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت بحق أفراد الجماعة من أذى جسدي ونفسي صارخ بل وحتى عقلي عبر القصف الكيماوي والاعتقال والتعذيب بكافة أشكاله.
ومن أبشع وأبخس الأساليب التي استخدمت آنذاك هي فرض إجراءات تعسفية وممارسات عنيفة لمنع الإنجاب بهدف القضاء على الوجود الكردي شيئاً فشيئاً ضمن الجغرافيات المستهدفة، بالإضافة إلى فصل الأطفال المتبقين عن عوائلهم قسرا.
أصدرت المحكمة الجنائية العراقية العليا عام2007 حكما تاريخياً يقضي بتصنيف جرائم الأنفال إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، رغم أن العراق لم يكن طرفاً فيه خلال الفترة التي ارتكبت فيها تلك الجرائم، واستناداً إلى القانون الجنائي العراقي الذي يجرم القتل الجماعي بصورة ممنهجة وكذلك القانون الدولي الإنساني بما يشمل اتفاقيات جنيف وأيضاً اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، ويعد هذا الحكم سابقة جليلة من نوعها لأنه يعتبر أول حكم يصدر من القضاء الوطني في منطقة الشرق الأوسط برمتها عبر تطبيقها بشكل مباشر لتعريف الإبادة الجماعية المنصوص عليه في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وقد حدثت عمليات وجرائم الأنفال في ظل وجود اتفاقية الإبادة الجماعية ونظام القانون الإنساني الدولي واللذان كانا نافذان وقتذاك بصورة فعلية.
لعب التوثيق دوراً محوريا وجوهرياً في التأكيد على الجرائم الممنهجة وتثبيتها قانونياً، وهذا ما قامت به المحكمة العراقية، فقد قدمت الآلاف من الوثائق الرسمية بعد سقوط نظام صدام حسين البعثي المستبد، ثم أن شهادات بعض الناجين والناجيات وكذلك تقارير بعض المنظمات الدولية ك هيومن رايتس ووتش كانتا من العوامل المساهمة في إقرار هذه الإبادة ضمن الإطار القانوني.
الإطار القانوني للإبادة الأرمنية
ارتكبت حكومة الاتحاد والترقي في الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1917 جرائم بحق الأرمن شملت القتل العمد والجماعي والتجويع والاعتقال التعسفي والترحيل القسري والاغتصاب، وتندرج الإبادة الأرمنية هذه ضمن الجرائم المنصوص عليها في القانون الدولي العرفي الذي يؤكد أن الإبادة الجماعية لا تسقط بالتقادم خصوصا ما جاء في اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية ،1968 رغم أن هذه الإبادة وقعت قبل إقرار اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 1948. وهذا ما يمنح ملاحقة المجرمين ومرتكبي هذه الجرائم بحق الأرمن مهما طال الزمن لإحقاق العدالة الرمزية والاعتراف الرسمي.
إحدى التحديات الرئيسية التي واجهتها الإبادة الأرمنية قانونياً هو وقوعها قبل تأسيس المنظومة القانونية الدولية حديثاً مثل اتفاقية 1948 ومحاكم نورمبرغ 1945- 1946، إلا أنه أثناء ارتكاب الإبادة كانت جميع المبادئ والأسس التي وضعت في القانون الدولي لاحقاً موجودة عرفياً كما اتفاقيات لاهاي 1899 و1907.
ووصفت الإبادة الأرمنية في المحافل الدولية بعدة أشكال، فقد وصفتها عصبة الأمم المتحدة بأنها جريمة ضد الحضارة أما الهيئات التابعة للأمم المتحدة كانت ولا تزال تستند إلى التعريف القانوني 1948.
ومن بين التحديات القانونية أيضاً غياب أو انعدام محكمة دولية خاصة على غرار محاكم يوغسلافيا ونورمبرغ، ومعارضة تركيا لجميع التوصيفات القانونية لجريمتها ضد الأرمن بأنها إبادة جماعية، مما شكل عقبة صارخة إزاء الوصول إلى إقرار دولي حول صفة الإبادة الجماعية.
الاعتراف
يعتبر الاعتراف إقليمياً ودولياً بالإبادة الجماعية أحد أهم سبل وآليات تحقيق العدالة قانونيا ورمزيا للضحايا والناجين. ففي سياق الإبادة الأرمنية، كانت الاعترافات البرلمانية حديثاً في أكثر من 30 دولة ومن بينها الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وألمانيا عبر إصدارها تصريحات كفيلة بجعل الإبادة الأرمنية قانونية على أساس التعريف التعاقدي الحديث والتعريف التعاقدي التاريخي وتم الاعتراف بها بشكل واسع نسبياً استناداً إلى اتفاقية الأمم المتحدة 1948 والقانون الدولي العرفي.
أما في حالة الأنفال، فقد صدر اعتراف قضائي من قبل المحكمة الجنائية العراقية العليا 2007 بأنها إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية، الأمر الذي يعزز من الاعتراف الدولي بها. وقد تبنت برلمانات عدة دول أوروبية مثل هولندا والنرويج والسويد هذا الاعتراف، لكن الاعتراف يبقى محدوداً إذا ما قورنت بالإبادة الأرمنية، وذلك بسبب التأثيرات الجيوسياسية والسياسية في عملية منح الاعتراف الرسمي. وما يؤكد ضرورة ابتعاد العدالة العالمية عن الانتقائية التامة في تعاملها مع ضحايا الإبادة الجماعية هو الشهادات التاريخية وعملية التوثيق.
إن الأنفال والإبادة الأرمنية تذكرنا دائماً أن القوانين الدولية والاعتراف الدولي، هما الكفالة الوحيدة لحفظ حقوق الضحايا والمطالبة بها بما فيها الكرامة الإنسانية، ولن تتحقق العدالة إلا بالتوثيق والاعتراف.