الكراهية بصيغة رقمية: كيف تعيد المنصات إنتاج الانقسام السوري؟

زينه عبدي

في زمن باتت فيه الكلمة الأكثر تأثيراً من الرصاصة، لم تعد المنصات الرقمية مجرد أداة لتبادل المعلومة والخبر، أو للترفيه، بل تحولت إلى ساحات صراع ذات رمزية خصبة محملة بمشاعر الخوف والتخوين والتحريض على الكراهية والانقسام في سوريا. وبينما تحاول سوريا أن تضمد جراحها المتراكمة لأكثر من نصف قرن خلال الحقبة الأسدية الهالكة، تفرز هذه المنصات واقعاً أشد مرارةً من الحقيقي، حيث الانفجار والتعبير المتداخلان، والانقسام والحضور، حتى أصبحت منبراً رسمياً لخطاب الكراهية بكافة أشكاله.
وُلِدت هذه المساحات لتكون منصة تعزيز وترسيخ حرية الرأي والتعبير، ولكن، لماذا تحولت إلى ساحة حرب مفتوحة للتحريض والتخوين بدلاً من الحوار؟ ومن يساعد في تأجيج خطاب الكراهية وانتشاره بهذه الحدة والسرعة داخل الفضاء السوري ويغذيه؟ هل الألم والمعاناة الحاضرتان، أم الغياب شبه التام للقانون، أو لربما استثمار الأطراف المتنازعة في تأجيج هذا الانشطار والكراهية عبر الأدوات الرقمية الحديثة؟ وما الذي يمكن فعله للحد منه رغم تفشيه الشاسع على كامل الجغرافيا السورية بدرجة كبيرة؟ ربما باتت السيطرة عليه غير ممكنة، لأن الانقسام بات مستشرياً ومكرساً بصورة لا رجعة فيها.
بين التعبير والانفجار
منذ اندلاع الصراع السوري لأكثر من عقد من الزمن، باتت منصات التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً متنامياً في المشهد السوري العام، حيث بداية الثورة وانهيار الثقة بالإعلام الرسمي آنذاك بشكل تدريجي، الذي كان يعكس روايته الخاصة حول الحدث متجاهلاً الروايات الأخرى الحقيقية المرتبطة بالشعب ومصيره، وبينما حضور الإعلام المستقل بات في تراجع ملحوظ أيضاً، لأسباب متعلقة بالهجرة أو التقييد والإغلاق القسري، وجد السوريون والسوريات ضالتهم/ن في منصات التواصل كاليوتيوب والفيس بوك خصوصاً ومنصة X بالإضافة إلى تطبيقات المراسلة كبديل للتعبير عن الرأي والتفاعل والتوثيق.
نشأت هذه المساحات الرقمية في بيئة غير مستقرة يشمل سياق سياسي أشد تعقيداً من ذي قبل يتسم بالدمار والانشطار مصحوباً بالغياب شبه التام للمؤسسات الوطنية السورية الجامعة. كما أن غياب إعلام حر يغطي القضايا السورية بنزاهة ومهنية وعدالة، أفسح المجال أمام روايات معاكسة ومضادة غير خاضعة للتحقق وقائمة على الانتماء الضيق ( أيديولوجياً، مناطقياً، طائفياً، سياسياً) والتجييش.
سياسياً، المشهد السوري العام يفتقر لتمثيل وخطاب وطني جامع لسد الفراغ السياسي بأقصى الدرجات ، فالسلطة مفككة بين جهات مختلفة، كل واحدة منها تحاول فرض وإثبات روايتها بشكل حقيقي على الأرض وعبر منصات التواصل الاجتماعي غبر آبهة بالهدف والرسالة الوطنية المشتركة للسوريين والسوريات. السبب الأساسي لتمدد خطاب الكراهية ليحل محل هذا الفراغ ويسده هو الغياب التام لمشروع ومرجعية سياسية وطنية موحدة، متحولاً إلى أداة للتعبئة عوضاً عن تبادل الرؤى المختلفة والحوارات البنّاءة.
إلى ذلك، الفضاء الرقمي مفتقر للشكل الحقيقي والفعال للرقابة الأخلاقية والقانونية بذات الوقت لضمان الحريات وحماية المجتمع من خطاب الكراهية بعيداً عن الانتقائية والانتقامية للأصوات المستقلة والحرة أو تلك التي تعارضها علناً، بالإضافة إلى الافتقار لسياسات إعلامية رشيدة وحتى لو وجدت فإنها لا تطبق بالصورة المطلوبة. وبهذا الشكل تُرك، ولا زال، المواطن السوري عارياً في هذه المساحات الرقمية التي تحكمها الفوضى، وبمنأى عن أي رادع قانوني لمؤلفي ومروِّجي التحريض والانقسام والتفكك والعنف بجميع أشكاله.
في هذا السياق، باتت منصات التواصل الاجتماعي أداة من أدوات الصراع الداخلي السوري، التعبئة والتشهير والتحريض المباشر على العنف والتخوين بدلاً من أن تكون مرآة للواقع والحقيقة.
جذور معقدة في واقع هش
لم يُخلق خطاب الكراهية في الفضاء الرقمي السوري من فراغ أو عن عبث، بل هو نتيجة حتمية وطبيعية لتراكمات سياسية وأيديولوجية ونفسية واجتماعية وتاريخية وطائفية، باتت أشد تفاقما مع اندلاع الحرب السورية وإلى الآن، وانفجرت بصورة تعابير وعبارات تحمل طابعاً متطرفاً على المنصات الرقمية، ويمكن تتبع الأسباب الرئيسية في الاستقطاب الساسي والطائفي العميق كما نلاحظه حاليا والصورة جلية للجميع، حيث الهجوم على الآخر المختلف الذي يؤكد أن هذه المنصات صارت أدوات لتثبيت الانتماء لا مساحات للنقاش والحوار.
يمكن حصر الأسباب أيضا في انتشار الذباب الإلكتروني والحسابات الوهمية الموجهة التي تديرها أطراف أمنية وسياسية داخل سوريا وخارجها بشكل مباشر بغية تأجيج خطاب الكراهية عبر حملات تدار بمستوى عال من الاحترافية، هدفها تفتيت النسيج الوطني وتفكيك المجتمع وتعزيز وتكريس الخوف والكراهية والشك حول أية دعوة للتفاهم الوطني.
ولا يغيب عن تأجيج خطاب الكراهية في هذه المرحلة الانتقالية، غياب القوانين الرادعة والعدالة الوطنية المتوازنة، هذا الغياب يشجع على التمادي ويحول الكراهية إلى أسلوب حياة أو أمر مألوف كما غيره. ويضاف إلى ما سبق الاحتقان النفسي الناتج عن حرب دامت أربعة عشر عاماً في غياب مساحات دعم نفسي واجتماعي حقيقية من قبل مختصين، مما أجبر البعض على التنفيس عبر السخرية الجارحة والشتائم والتعابير التحريضية التي تسببت ولا تزال بالضرر الأكبر على النسيج المجتمعي وعلى مدد طويلة.
وفي ذات الإطار، ضعف الثقافة الإعلامية والجهل الرقمي لدى غالبية السوريين والسوريات، فيعاد نشر الأكاذيب والصور المفبركة والأخبار المضللة دون مسؤولية، وهكذا في ظل انتشار الأمية الرقمية تتحول الشائعات إلى حقيقة مؤكدة تصبح جسرا تُبنى عليه خطابات الكراهية واحدة تلو الأخرى.
نحو فضاء رقمي أكثر إنصافاً
مواجهة خطاب الكراهية على منصات التواصل الاجتماعي ليست بالأمر المستحيل رغم المشهد السوري المعقد والانقسامات التي تعكسها هذه المنصات، حيث من الممكن البدء خلال هذه المرحلة الانتقالية غير المستقرة بخطوات واقعية قابلة للتنفيذ وأبرزها تعزيز الثقافة الرقمية والتربية الإعلامية وتمكين الأصوات المعتدلة والمصالِحة الوطنية. الضغط لإقرار قوانين عادلة تجرِّم خطاب الكراهية ومساءلة المنصات النشطة في سوريا على أساس المسؤولية الأخلاقية لإزالة المحتوى الضار وتعزيز آليات التبليغ وبما يتناسب مع السياق السوري الحالي. تعزيز الدعم النفسي المجتمعي لتخفيف الاحتقان وتمكين الأفراد من التعبير عن أنفسهم، وتشجيع الإنتاج الإعلامي المسؤول خاصة لا سيما الرسمي منه والذي يمكن لعب دور حيوي وحاسم في كسر الحلقة السامة لخطاب الكراهية عوضاً عن الدور السلبي المحرض الذي تلعبه الآن بعض المؤسسات التابعة له.
وأخيراً، رغم التحديات الهائلة، تبقى مواجهة خطاب الكراهية على منصات التواصل الاجتماعي مسؤولية جماعية. فهذا الخطاب ليس بكلمات عابرة أو منشورات غاضبة فقط، بل يعتبر انعكاساً لواقع وهويات وشعور جمعي مأزوم معلَّق ما بين الخذلان والخوف، لذلك في مرحلة انتقالية كهذه، مسؤوليتنا جميعاً وعلى رأسهم السلطة الحالية في دمشق ترميم العلاقات وبناء الثقة من جديد، والتعلم بدقة كيفية الاختلاف دون إقصاء أو تهميش، بكلمة مسؤولة ومحتوى يفتح باباً للحوار لا للحرب، فالكلمة البناءة لا تقل بطولة وتأثيراً عن تلك التي تفضح، والصمت عن خطاب الكراهية تواطؤ وليس موقفا حيادياً. فلنجعل من هذه المنصات منبراً للحقيقة والعدالة لا خندقاً بين السوريين والسوريات.