مآلات القرار ٢٢٥٤ في سوريا بين التفويض والاحتكار

زينه عبدي

يبدو المشهد السوري العام، بعد سقوط الأسد في 8 كانون الأول 2024، خالٍ من أية مرجعية وطنية يستند عليه الشعب السوري في علاقته مع الدولة وبالعكس. 

الأمر الذي صدر عن السلطات الانتقالية في آذار 2025 فيما يخص الإعلان الدستوري الذي زُعم أنه جامع للسوريين والسوريات، لم يكن سوى مبادرة فردية لطرف واحد فقط بمنأى عن أي توافق وطني وإطار أممي، ما فرضت وبشكل تعسفي شرعيتها وسلطتها الأحادية دون امتلاك أي عقد اجتماعي ناظم.

في رؤية المجتمع الدولي، يظل القرار الأممي رقم 2254، الصادر عن مجلس الأمن في كانون الأول 2015، الذي ينص على مسار الانتقال السياسي السوري هو الصيغة الدولية الوحيدة القابلة للتفعيل والاستدعاء لإعادة التعريف بشرعية السلطة في سوريا.

أداة تأويل

بعد تولي السلطة الانتقالية زمام الأمور في سوريا منذ كانون الأول 2024، تحاول جاهدة طرح فكرة السوري – السوري الصافي بعيدة عن أية شوائب أممية، لتتحول بذلك إلى أداة تأويل غير مقيدة بالالتزامات الدولية لاسيما في ظل انعدام طرفي القرار من آل الأسد والائتلاف المعارض له وقتذاك.

ما بعد السلطوية العفلقية، التي تم القضاء على حكامها وليس على عقليتها وذهنيتها، شرعت السلطة الانتقالية الحالية بالهيمنة على مفاصل القرار دون إيلاء أهمية لوجوب الفصل بين السلطات أو تشكيل إطار رقابي على السيادة الوطنية التي تطرحها منذ السقوط. السيادة أحادية الجانب التي تتمثل بالاحتكار المباشر والحقيقي للسلطة كما كانت خلال عقود من نظام حزب ميشيل عفلق وزبانيته آل الأسد، لا كأداة لاستعادة التوازن الوطني المتمثل بالسوريين والسوريات بخطاب يجمع لا يقصي.

هذه المقاربة ليست إلا وخطة تكتيكية لتفريغ القرار 2254 من محتواه الأصلي التنفيذي، وتجريده في نص رمزي فاقد لأدوات التفعيل، كما تعامل معه النظام الفار بوصفه ورقة مساومة ومكسب تفاوضي محتمل لا مسؤولية قانونية أو تعهد ملزم. وهذا ما ميّز نظام الأسد لاسيما خلال مراوغته في العلاقة بين السلطة والأطراف الدولية لأكثر من ستين عقد مضى.

يعتبر القرار 2254 إطاراً دولياً تُلزم سوريا بالتطبيق كونه وثيقة قانونية ذات اعتراف دولي بصرف النظر عن تركيبة السلطة الراهنة. رفض هذا القرار الأممي يعكس حجم العجز في بنية هذه السلطة الانتقالية التي ترفض الاندماج في هيكل الشرعية الدولية التي تطالب بإيجاد مؤسسات تمثَّل بشكل حقيقي وهيئات حكم انتقالية.

هنا يبرز دور السلطات الانتقالية السورية التي ترتكز في شرعيتها على قدرتها على توفير الخدمات والأمن بمنأى عن أي تمثيل حقيقي أو وثيقة سياسية. إن هذا الشكل من الشرعية يعد أخطر علامات التحول في الدولة التي تمر بالمرحلة الانتقالية، فالكفاءات إدارياً باتت هي من تلعب دور الرغبة السياسية، ما يعزز بناء العلاقة بين الدولة والشعب على أساس المصلحة وليس الحق.

تحاول السلطة الانتقالية تحييد هذا القرار الأممي بالمجمل بحجة التغيرات في الواقع السوري، إلا أن هذا القرار في منطق الأمم المتحدة لا يُلغى بتغيُّر السلطات أو الحكام، لأنه مرتبط بصورة مباشرة بالمسؤولية الواقعة على عاتق الدولة نحو المجتمع الدولي وبمعزل عن نزعة الجهات الحاكمة في البلاد، ما يمنح القرار استمراريته سياسياً وقانونياً حتى لو غابت أية جهة أصلية فيه لأنه يعبر عن الإرادة الدولية بصورة توافقية لتجنب الانهيار المحتمل للدول ما بعد الصراعات والنزاعات.

تخشى السلطة الانتقالية من تطبيق القرار 2254 بوصفه تقويض للسلطة المركزية وبالتالي تقاسمها الذي يبدد الاحتكار. وهنا فعليا تعاد إنتاج فكرة المركزية الضيقة بل والمغلقة التي تبني أشرس أوجه العزلة السياسية بشكل مشابه لنموذج النظام الأسدي. المطلوب اليوم هو الرضوخ للانتقال السلس من الاحتكار للعقد القائم على الالتزام المتبادل لخلق سيادة متوازنة بين الدولة والعالم بعيداً عن أية مواجهة. لذا على السلطات الانتقالية في سوريا اكتساب صفة التمثيل القانوني بشرط انبثاقها عن مسار أممي توافقي ومعترف به، لأن القانون الدولي قائم على مبدأ اكتساب الشرعية السياسية من الإجراء وليس من القوة والأمر الواقع  كما هو الحال بسوريا الذي يعبر عن واقع انتقالي مؤقت ريثما تتم التسويات التوافقية.

آفاق تفعيل القرار 2254

منذ سقوط الأسد وإلى الآن، شرع المشهد الدولي في عملية ضبط التوازنات عبر القرار 2254، كما تلوح له، لكن دون تغيير حقيقي في تطبيقه بل بات مصحوباً بالإهمال على المستوى التنفيذي، ما يبدو المشهد في تناقض ومفارقات عميقة ما بين التمسك بالإطار المرجعي في خطاباته العلنية وبين الفعل والتعامل المجمد، بمعنى إبقاء المشهد السوري الحالي بين الحدود الدنيا للاستقرار وعملية الانتقال السياسي البطيئة ولربما البعيدة المنال خلافاً لما يطمح إليه السوريون والسوريات بعد عقود من الصراع والنزاع.

في خضم المشهد الحالي، لابد من الحديث عن إيجاد إطار قانوني للقرار الأممي 2254 يضبط الواقع والموقف من سوريا نفسها بدلاً من أن يكون في عداد التأجيل أكثر من التطبيق، وهذا ما لاحظناه في سوريا منذ العام 2013 عبر إدارة الدولة السورية عن بعد.

وفي هذا السياق، أود توضيح أنه ثمة شرعيتان تتمحوران حول القانون والواقع، وما بينهما تحاول السلطة الانتقالية التحرك داخل ذاك الفضاء الممزوج بالتمثيل الثانوي والاعتراف النسبي. وبصورة فعلية لا يمكننا الرجوع لمسار جنيف الكلاسيكي، بل بتفعيل وإحداث 2254 من خلال تفاهمات دولية وبإشراف أممي، ما يتطلب بلورة منهجية سياسية مصحوبة بمسار تقني يشبك ما بين الدمج العسكري والإصلاحي والأمني وإعادة الإعمار والمشاركة الحقيقية بما يتوافق مع الأطر القانونية، وهذا ما يستوجب السعي إليه على مبدأ البناء وبصعود تدريجي من القاعدة إلى القمة الذي يمكن تسميته بالتحول المتدرج باتجاه التوافق القانوني.

الواقع السوري الحالي يفرض على القرار 2254 إعادة ترتيب النوايا الدولية حوله لتفعيله بالشكل المطلوب، لأن القانون الدولي ينفَّذ وفقاً لمدى توفر الإرادة السياسية، وهذا ما أثبتته سنوات الصراع السابقة لا سيما بعد سقوط  نظام الأسد وبروز سلطة جديدة محله، حيث إعادة التعريف بالقرار مجدداً كوسيلة للاحتفاظ  بسوريا تماشياً مع منطق الدولة، لذا يطرح السؤال، وبجدارة، نفسه كأحد أبرز الركائز الأساسية حول المعنى الحقيقي للدولة: هل يمكن تأسيس دولة حقيقية بغياب اتفاق سياسي جامع وشامل وإطار قانوني يضبط السلطة والقوة؟.

في المشهد السوري الراهن، ليس بالضرورة تنفيذ كافة بنود القرار 2254، وإنما العمل عليه على أسس وطنية والدفع نحو إنتاج الشرعية من جديد، ولا يزال هذا القرار موجود بصورة حقيقية وحية في الوعي السياسي، لكن الاختبار والمواجهة الحقيقية تكمن في كيفية صياغة مفهوم الدولة السورية وطرحها بما يناسب تطلعات السوريين والسوريات: دولة تعددية مدنية ديمقراطية تأخذ سيادتها بوصفها الراعي الأول للمسؤولية الجماعية عن شعب بأكمله، وسند قانوني كإطار عقدي مؤسس للسلطة.

يظل القرار الأممي حاجة ملحة داخل سوريا، فهو الهيكل الوحيد رغم عدم مثاليته، والقاعدة الممكنة اليوم لإعادة التعريف بالدولة السوري داخل المجتمع الدولي ودمجها فيه لتشكيل واقع سياسي مستدام، وأي طرح آخر أعتقده سيكون بمثابة إعادة تدوير للاضطرابات السابقة وسيزيد المشهد تعقيداً.

وأخيراً، لا يمكن اعتبار سقوط نظام الأسد هو ما يبطل القرار الأممي 2254، بل ما قد يلغيه هو الغياب التام لفكرة تأسيس دولة قائمة على القانون والدستور. لذا يظل هذه القرار حجر الزاوية في تقييم مدى الشرعية التي تتمتع أو ستتمتع بها السلطة في دمشق، وفي ظل غياب الإرادة المتمثلة ببناء دولة المؤسسات والقانون، يبقى مسار السلام في سوريا غامضاً ومجهولاً، ما يلزم الشعب السوري والمجتمع الدولي للعمل بجدية نحو بلورة نظام حكم بغطاء قانوني يضمن حقوق الجميع لا يلغيها، حيث تحقيق الشرعية المطلوبة والبدء بصفحة سوريا الجديدة الجامعة الوطنية لا الإقصائية أو اللادستورية.

م