زينه عبدي / الرافد

في خضم المشهد الانتقالي سورياً، وبالتوازي مع التحول اللافت في مسارات التعامل الدولي مع الملف السوري، تتراءى لحظات سياسية هادئة تارةً كما تتضح على السطح وتارة أخرى عميقة في الصميم، دون تجاوز لاسم الكورد في جوهر التوازنات الدولية لا سيما ضمن إلغاء قانون قيصر الذي صدر في العاشر من كانون الأول الجاري، وأقر تعديله كجزء من مشروع قانون الدفاع الأميركي، وقد يصبح نافذاً فور تمريره على مجلس الشيوخ وتوقيعه من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب. برز بند يشير إلى الربط العميق بين إلغاء القانون وتنفيذ اتفاق العاشر من آذار كأبرز مؤشر على رؤية واشنطن الجديدة في إعادة ترتيب أولوياته في مستقبل سوريا الجديد، وبات التركيز على مستقبل شمال شرق سوريا كأحد أشد الملفات المفصلية حضوراً في معادلة التوازنات الجيوسياسية التي تعيد ترتيب وبلورة مشهد سوري يليق بتطلعات السوريين والسوريات وعلى رأسهم الكورد، بل وركزت الولايات المتحدة، دوناً عن الإصلاحات الإدارية والاقتصادية، على المسارات السياسية والأمنية المرتبطة بالدور الحقيقي للمكون الكوردي وقوات سوريا الديمقراطية في عملية البناء الوطني.
إدراج المسألة الكوردية ضمن الإلغاء
لم يعد الحديث عن المسألة الكوردية داخل هذا المشروع كتفصيل هامشي يمكن تجاهله، بل بات جزءً أساسياً من أركان التسوية داخل المعادلة السورية لتحقيق الاستقرار كما تطرحه واشنطن. كان لقوات سوريا الديمقراطية دورا حيوياً في مناطق شرق الفرات على المستوى العسكري لا سيما في محاربته لأعتى التنظيمات الإرهابية بالتعاون مع التحالف الدولي، ما أكسبها شرعية دولية سياسياً وعسكرياً على مدى سنوات خلال الثورة السورية ولا تزال. ولمنع تشكيل أي مسار يدعو لتدمير سوريا من جديد لا بد من إبقاء شرق الفرات في حالة استقرار دائمة لا سيما أنها تعتبر منطقة استراتيجية وفاعلة، بل وتعد سلة سوريا المغذية لبقية الجغرافيا السورية بسبب تواجد الثروات الزراعية والنفطية والمائية فيها.
في هذا السياق، تؤكد واشنطن رسم توازنات جديدة في سوريا بمنأى عن أي تجاهل متعمد للكورد، الذين تعتبرهم شريان المنطقة النابض سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً. لذا تسعى واشنطن وباستمرار لإعادة بناء الجسم السوري عبر تفاهمات جدية شاملة على الأرض لا سيما بين السلطات الانتقالية الحالية وقوات سوريا الديمقراطية، ما يعزز فكرة بناء الدولة السورية القادمة على أسس لامركزية تعددية جامعة وطنية. لذا أية مقاربة داخل سوريا يمس إقصاء الكورد سيكون مصيرها الفشل والانهيار حتماً. لذا من متطلبات المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا حالياً أخذ المسألة الكوردية كدعامة وحجر الزاوية في عملية البناء، لتحقيق حالة الاستقرار والتوازن في البلاد التي أنهكتها الحرب على مدى أربعة عشر عاماً، الأمر الذي من شأنه إعادة ترتيب العلاقات مع الأطراف الإقليمية أيضاً.
وفي ذات الإطار، لم تعد الولايات المتحدة الأميركية تنظر للكورد كشريك استراتيجي أو حليف عسكري ضد تنظيم داعش فحسب، بل تعدهم عاملاً قوياً في مسائل عدة منها التصدي للتمدد التركي، وبوابة حقيقية للاستقرار في مناطق شمال شرق سوريا خصوصاً والشرق الأوسط عموماً، بالإضافة لإثباتها قدرتها السياسية والعسكرية، ما يعني إمكانية وصفها باللاعب السياسي الأشرس على الساحة السورية حالياً.
العاشر من آذار كنقطة ارتكاز
يعتبر اتفاق العاشر من آذار نقطة ارتكاز داخل الطرح الأميركي فيما يتعلق بإلغاء قانون قيصر بسبب أهميته المتمحورة حول رسم ملامح سوريا الجديدة عبر طرح ملف الحلول السياسية الضامنة لحقوق الجميع، بالإضافة لطريقة دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن وزارة الدفاع السورية بالصورة التي تحفظ خصوصيتها، ما يرسخ فكرة بلورة وطن سوري وفقاً لمبادئ المواطنة الحقيقية ودون إقصاء أو تهميش للمكون الكوردي على وجه الخصوص والمكونات الأخرى داخل الجغرافيا السورية على العموم.
يعكس هذا الاتفاق تغييراً حقيقياً في مسارات العملية السياسية السورية وكذلك في دور اللاعبين الأساسيين فيها على المستويين الإقليمي والدولي، حيث التأكيد على دور الكورد الفاعل والإقرار بوجودهم دستوريا وقانونيا كشريك في البلاد غير قابل للمساومة أو التفاوض خلافاً لما يتراءى لدمشق الآن، وعدِّ تغييب ملفهم من أبرز العقبات التي يمكنها عرقلة أي حل سياسي سوري، بل عليها الاعتراف الرسمي، وتنفيذه على أرض الواقع، بوجود هذه القوة الحقيقية. هذه الشروط التي وضعتها واشنطن ليست بالأمر السهل على السلطات الانتقالية في دمشق، فالانتقال من التهميش والإقصاء لثاني أكبر قومية في سوريا إلى شريك حقيقي لا يمكن الاستغناء عنه إطلاقاً في حال أراد الجميع الاستقرار والبناء والمواطنة.
السيناريوهات المستقبلية
في ظل المرحلة الانتقالية والتحولات المرافقة لها لاسيما بعد صدور إلغاء قانون قيصر، لكن دون إقراره النهائي، نرى تقدماً ملحوظاً في قلب الساحة السورية خلافاً لما اعتادته لأكثر من عقد من الزمن ولكن بإطار غامض نوعاً ما، حيث تقاطع سيناريوهات مشهد المسألة الكوردية وتنفيذ اتفاق العاشر من آذار ومقاربة الولايات المتحدة الأميركية للملف السوري. فهناك تصور لبروز مسار سياسي بشكل موسع وقائم على التقارب في المواقف بين السلطة الانتقالية في دمشق والكورد ووضعه على رأس الأولويات في لب المشهد الجديد لسوريا، ما يفسح المجال لإعادة بلورة الشكل الحقيقي للدولة بمشاركة الجميع لا إقصائهم.
هنا، ستواجه دمشق اهتزازات سياسية جلية بل واختباراً حقيقياً لطرح وتفعيل شكل الحكم القادم الذي يفترض أن يكون أكثر شمولاً، فيما تلج الأطراف الكوردية طور أشد دقة من ذي قبل تتكاثف فيها ضمانات مرتقبة أو ما يسمى بتعهدات مستقبلية حول الإقرار السياسي مع الإكراهات المرتبطة بإعادة ترتيب وضبط التمثيل الحقيقي داخل البنية الحكومية الجديدة.
ويظل السيناريو الحاضر الغائب فيما يتعلق بتفعيل ملف السويداء والساحل في طور التفاهمات السورية – السورية خاصة إن تم التوصل لتوافقات جدية بين الكورد والسلطات الانتقالية، ما يعزز وبصورة كبيرة معدل الانخفاض التدريجي لمشهد الاستقطاب الحاد الذي يعد السبب الرئيسي لعرقلة الإصلاحات الداخلية.
ختاماً، يشكل إلغاء قانون قيصر في عملية إقرانه باتفاق العاشر من آذار والمسألة الكوردية، نقطة انعطاف استراتيجية واسعة النطاق في المشهد السوري. حيث التحولات الجذرية من سياسات تقييدية حازمة وحاسمة إلى سياسات قائمة على التفاهم والتسويات المنظمة والمتوازنة، ما يجبر الطرفين (دمشق وقسد) على بناء وطن سوري استناداً لمنهج توافقات مخططة ومحسوبة. نجاح هذا المسار والبدء بمرحلة الحل السياسي وتحقيق الاستقرار مرهون بالجدية التي يمنحها الطرفان في تغليب المصلحة العامة والوطنية، والتضمين الملموس لحقوق الكورد وقبولهم كشريك حقيقي داخل أروقة الدولة السورية الجديدة، وبالتالي ضمان مستقبل يرسخ المصالح المشتركة ويصون التعددية والتعايش على نحو متوازن يقوض وضعية الانقسامات التي من شأنها إعادة الجميع إلى دائرة الأزمات المتجددة ومن بينهم الكورد.













