غيب الموت فجأة الروائي والقاص المصري مكاوي سعيد، أمس الأول (السبت)، عن عمر ناهز الـ61 عاما، ووري جثمانه الثرى بمقابر باب الوزير، بالقرب من قلعة صلاح الدين في وسط القاهرة، تاركا خلفه إرثا أدبيا ناصعا جديرا بأن يخلده في وجدان جمهوره ومحبيه، رصد فيه الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر.
كان مكاوي، أو كما يسميه البعض “أمير الشوارع بلا منازع” يجهز في السنوات الأخيرة لكتاب كبير وشامل يوثق لأحداث وشخوص مدينة القاهرة التي ذاب فيها عشقا وبادلته عشقا بعشق، لكن القدر لم يمهله لاستكماله.
امتلك الروائي الراحل قدرة فائقة على تشريح النفس الإنسانية وسبر أغوارها، وكشف ألغازها، فضلا عن براعته في رصد التغيرات التي مرت بها مصر، بسلاسة وعذوبة، تبدو قريبة من سلاسته وعذوبته الشخصية التي يفتن بها كل من اقترب منه.
ظهرت ملكته جلية في الكثير من أعماله، في جميع أعماله القصصية وروايته الأولى التي حملت عنوان “فئران السفينة” وصدرت عام 1991 ونالت جائزة سعاد الصباح من الكويت.
شرّحت رواية “فئران السفينة” جملة كبيرة من التحولات الاجتماعية التي شهدتها مصر في منتصف السبعينات من القرن الماضي، إبان فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، والتي تمثلت في سياسة الانفتاح الاقتصادي وتأثيراته السلبية العميقة على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، وزيادة الهوة بين الفقراء والأغنياء، ما دفع قطاعا كبيرا من المصريين إلى الخروج في انتفاضة شعبية في يناير 1977 احتجاجا على ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية، وإجبار رئيس الجمهورية على عدم رفعها تماشيا مع رغبة البسطاء.
علاقات متشابكة
في ثانية رواياته “تغريدة البجعة” التي صدرت عام 2008، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، تناول سعيد ظاهرة المد الديني والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر خلال فترة السبعينات أيضا، والعلاقات “الملتبسة” بين أبطالها من المصريين والأجانب وأطفال الشوارع والإحباطات التي عصفت بأبطال الرواية، ودفعتهم في النهاية إلى إطلاق صرخة الموت، تماماً مثل البجعة التي ما إن تستشرف الموت وتدخل في حالة الاحتضار حتى تطلق صرختها الأخيرة، التي تعني الرحيل.
أما في ثالثة رواياته “أن تحبك جيهان” التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، رصد الراحل من خلالها بعض الأحداث التي سبقت ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وكانت جزءاً من أحداث الثورة نفسها، وكأنه حاول أن يرد الاعتبار للرومانسية التي افتقدتها الكثير من المجتمعات العربية في العقود الأخيرة، عبر شخوص الرواية وعلاقاتها المتشابكة والمعقدة والمأزومة، والتي تعاني من الاكتئاب والإحباطات للدرجة التي تؤدي بالبعض إلى الموت، وتدفع بالبعض الآخر إلى الهذيان والجنون.
أصدر مكاوي عدة مجموعات قصصية، لم تبرح في معظمها عالمه الذي يكابد الموت والفقد والإحباطات والخيبات، بالإضافة إلى عدة كتب تناول في معظمها منطقته الأثيرة “وسط القاهرة” أو “وسط البلد” كما يحب أن يسميها المصريون، وما تشهده من أحداث وتطورات وعلاقات متشابكة.
من مجموعاته القصصية “الركض وراء الضوء” وصدرت عام 1982، وكتبها منفعلا على وفاة أستاذه الأديب الراحل يحيي الطاهر عبدالله، بالإضافة إلى مجموعات “حالة رومانسية”، و”راكبة المقعد الخلفي”، و”ليكن في علم الجميع سأظل هكذا”، و”سري الصغير”، و”اللامرئيون” التي حصلت على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2014، و”البهجة تحزم حقائبها” التي حصلت على جائزة ساويرس في القصة القصيرة للكبار عام 2015، وترجمت أعماله إلى عدة لغات منها الإنكليزية والألمانية والفرنسية.
حكايات مكاوي
من بين كتبه “مقتنيات وسط البلد” الذي تناول فيه شخصيات وأماكن عرفها مكاوي جيدا واختبرها عن قرب فوجد فيها من التميز والاختلاف ما دفعه إلى الكتابة عنها، ومن كتبه أيضاً “كراسة التحرير”.
في وجدان محبيه
بدأ الأديب الراحل رحلته وحياته الأدبية شاعرا متأثرا بكبار الشعراء المصريين والعرب، مثل صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وعبدالوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، ومحمد الفيتوري.
ولقب بشاعر جامعة القاهرة عام 1979، إلا أنه عقب تخرجه في الجامعة اتجه إلى كتابة القصة القصيرة والرواية، متأثرا بعدد من كبار كتاب الرواية والقصة القصيرة من المصريين والأجانب، على رأسهم يوسف إدريس، ومكسيم جوركي، وتشيكوف، وديستويفسكي، وهيمنغواي.
كان سعيد شغوفا بالفن السينمائي ودرسه لعامين كاملين، وكانت له تجارب مهمة في كتابة السيناريو والتعليق لبعض الأفلام الوثائقية، وأنتجت شركة “هاند ميد ستوديوز” فيلما تسجيليا عن الراحل، حمل عنوان “ذات مكان” تناول جوانب من سيرة حياته ومشواره الأدبي.
قال الأديب أحمد الخميسي ، إن “هناك أشخاصا نعتاد على وجودهم بيننا حتى نظن أنه هكذا ينبغي أن تسير الحياة إلى أن نفقدهم فجأة، فنشعر بالذهول وندرك أهمية وجودهم في حياتنا”.
وأضاف “اعتاد الجميع على أن مكاوي سعيد موجود دائما، هنا وهناك، قطعة من حياة القاهرة، وجزء من قلبها، تراه على أي وفي كل المقاهي بوسط البلد، في لقاءات الأدباء والندوات، وفي مصافحات الأصدقاء السريعة”.
وأوضح الشاعر شعبان يوسف لـ”العرب” أن مكاوي (أو ميكي كما يلقبه محبوه) كاتب حكايات وسط البلد، وبرحيله فقدت الحياة الثقافية المصرية معلما مهما في العقود الثلاثة الأخيرة، ورغم أنه كان مشغولا في بداياته بالأفلام التسجيلية القصيرة ونجحت تلك الأفلام في شق طريقها إلى الحياة الثقافية والسينمائية، إلا أنه سرعان ما جذبه عالم القصة والرواية.
رسخت روايته الأشهر “تغريدة البجعة” التي قرأت بشكل واسع، أقدامه في الحياة الأدبية والثقافية، لأن الرواية تناولت موضوعا اجتماعيا مثيرا وبارزا وإشكاليا آنذاك وهو أزمة الهامش الاجتماعي في مصر.
وقال يوسف “كان هذا الموضوع يشغل بال المصريين، فضلا عن الأسلوب الفني الممتع الذي كتب به روايته، ليضمن مساحة واسعة ومتنوعة من القراء، وبهذه الرواية لم يجد مكاوي سعيد طريقه إلى القراء فقط، بل فتح زاوية واسعة ليُكسب فن الرواية قراءً كثيرين”.
واكتسب سعيد شهرة واسعة بين القراء المحترفين والنخبة والقارئ العام، وهو ما جعله يتواصل مع القراء عبر الصحف ويكتب في موضوعات عديدة أبرزها كواليس وسط البلد.
كان يجلس كثيرا على المقهى الشهير بالقاهرة المعروف بـ”زهرة البستان” ومن خلال ذلك المقهى التقى الكاتب بالمئات من العامة والمثقفين واستمع إلى حكاياتهم، وعاش بعضها وراح يعيد إنتاجها بشكل مثير وممتع، ليصبح من أهم كتاب حكايات وقصص وسط البلد، ذلك المجال المهم الذي يعبر بشكل عميق عن الشخصية المصرية المعاصرة.
حكايات وسط البلد
أكد الروائي محمد داود لـ “العرب”، أن سعيد مثّل حالة فريدة بين كتاب مصر، ليس فقط لتميز كتاباته خاصة الإبداعية منها قصصًا وروايات، لكن أيضًا بحضوره اللافت في الحياة الثقافية والأدبية، لا أحد من كتاب مصر تقريبًا كان يجهل مكانه وغير المنقطع تقريبًا، في مقهى “زهرة البستان”، أحد أهم ملتقيات الأدباء في وسط القاهرة، بابتسامة دائمة ودودة، هادئة، عميقة.
ولفت إلى أنه كان يجمع ببساطة بين تواصل حار وحي مع الآخرين وميل للصمت والإنصات إليهم، ورغم بدايات شعرية مبكرة، خاصة في فترة دراسته الجامعية، فقد تألق قلمه مع القصة والرواية.
وأشار إلى أن بين روايته الأولى “فئران السفينة” وروايته الأخيرة “أن تحبك جيهان”، قدم الراحل أعمالًا ليست غزيرة من حيث العدد، لكنها كبيرة بقيمتها وأثرها، وركزت على الهم الاجتماعي والثقافي والثوري.
وقال داود “كان لسعيد إسهام في متابعة الواقع المصري بمقال منتظم في جريدة المصري اليوم، مع مشاركات متواصلة في الندوات الأدبية والثقافية، وربما يكفي أن يكون رحيله المفاجئ صادمًا فقط من حيث أنه بلا سابق إنذار من مرض أو احتجاب أو عزلة عن الواقع الثقافي، لكن المؤكد أن شدة الصدمة والحزن لهذا الرحيل ليس فقط لأنه مفاجئ”.
إنها القيمة الرمزية الكبيرة التي مثلها مكاوي سعيد على المستوى الأدبي بأعماله، أو على المستوى الإنساني بعلاقاته الطيبة الودودة مع معظم كتاب مصر ونشاطه وحضوره الفاعل في الحياة الأدبية.
وأشار الروائي والإذاعي عمرو الشامي، لـ”العرب”، إلى أن معرفته بمكاوي سعيد جاءت صدفة في أثناء ذهابه إلى مقهى “زهرة البستان”، فوجده “إنسانا مثقفا بشوشا، يحمل بين ضلوعه قلبا كبيرا، ودارت بينهما حوارات كثيرة، كانت تنتهي بوعد بإجراء حوار إذاعي حول روايته الأشهر تغريدة البجعة، لكن يبدو أن القدر كان أسرع منا فخدعنا وأخذ منا مكاوي”.
وأكد أنه كان يمتلك قلما عذبا، شديد الحساسية، وظهر ذلك تماماً في الفيلم الوثائقي “عبدالمنعم رياض” الذي كتب تعليقه مكاوي، فبدا التعليق وكأنه نحت من روح وعقل وقلب فنان، وهو بالفعل كان فنانا كبيرا.