يشكل خط سكك حديد أوهورو – الذي يمتد بطول ما يقارب 1,860 كيلومتراً – شريان حياة حيوي، يربط بين تجمعات سكنية في مناطق ريفية تقع في بعضٍ من أكثر البقاع الحافلة بالمناظر الطبيعية الخلابة في تنزانيا وزامبيا.
في عام 1970، دشن الزعيمان، اللذان قادا زامبيا وتنزانيا إلى الاستقلال، مشروع مد خط السكك الحديدية “تازارا”، المعروف كذلك باسم “أوهورو”، والذي شق طريقا يصل بين مدينة دار السلام التنزانية الساحلية والمنطقة المعروفة باسم حزام النحاس الواقعة في وسط زامبيا.
في ذلك الوقت، كان الأمل يحدو الرئيس التنزاني جوليوس نيريري ونظيره الزامبي كينيث كاوندا، في أن يوفر هذا الخط الفرصة لتنقل المواطنين ونقل البضائع بين البلدين، بعيدا عن جنوب أفريقيا، وروديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليا)، وهما بلدان كان يسيطر عليهما حكامٌ بيض البشرة حينذاك. لذا، أطلق الرئيسان على خط السكك الحديدية هذا اسم “خط سكك حديد الحرية”.
وحتى اليوم، لا يزال ذلك الخط يمثل شريان حياة لمئات من التجمعات السكنية القاطنة على جانبيه، إذ ينقل الفلاحون، الذين يزرعون الذرة والأرز والطماطم، محاصيلهم على متن القطارات لتسويقها في المدن والبلدات، بينما يستخدم التجار وسيلة النقل نفسها لجلب سلعٍ استهلاكية إلى سكان القرى.
وبفضل هذا الخط الحديدي، اتسعت رقعة قرى صغيرة لتصبح بلدات كبيرة. بجانب ذلك، يشكل ما يُعرف بـ”قطار كليمنغارو العادي” – وهو واحدٌ من ثلاثة قطارات ركاب تسير على خط “تازارا” – وسيلة النقل الرخيصة والآمنة الوحيدة، المتوافرة لدى الكثير من مواطني تنزانيا وزامبيا.
أما القطار فيشكل سوقا في حد ذاته. ففي كلٍ من محطاته التي تزيد على المئة، يُدلّي الركاب أجسادهم منه، لشراء عناقيد كبيرة من الموز، يُضطرون لضغطها لكي يتسنى لهم إدخالها عبر نوافذه الضيقة، بينما يجرب الباعة حظهم في ممراته، عارضين صنادل بلاستيكية ومشروبات غازية.
وفي ضواحي دار السلام، تقع محطة قطار “تازارا” وسط مزيج مُرقع من الأسطح المصنوعة من الصفيح. وبينما تسللت الشقوق إلى الواجهة العتيقة للمحطة، لا يبدو أن الكثير من التغيرات طرأ عليها منذ تشييدها.
وأمام الأبواب الخشبية الدوارة، يعكف المفتشون على ثقب كعوب التذاكر، وفي طابقٍ أسفل منهم، توزن البضائع ذات الأوزان الثقيلة، مثل الأرائك وهياكل الأَسِرّة في المخزن الخاص بالطرود.
وفي تمام الساعة الواحدة من بعد الظهر، تُفتح الأبواب المؤدية إلى الرصيف، لتتسابق جموع الركاب مُندفعةً إلى القطار، أملا في الجلوس على المقاعد المجاورة للنوافذ.
وبعد مغادرته المحطة، يمضي القطار بالخروج من دار السلام، ليمر بمزارع استوائية، قبل أن يدخل محمية “سيلوس جَيم” مع غروب الشمس تماما.
وفي هذه المنطقة، يمكن للركاب أن يلقوا نظراتٍ خاطفةٍ يرون عبرها – بين الأشجار المتشابكة – حيواناتٍ من نوع “الظبي الأفريقي” و”الرباح” وهو قردٌ أفريقي ضخم الجثة قصير الذيل، وذلك قبل أن يُسدل الليل أستاره.
لكن يُقال للركاب عندما يدخل الظلام المُطبق عليهم إن الضباع والزرافات ليست بعيدة عنهم كثيرا. ويروي الركاب والعمال كذلك قصصا عن الفيلة التي تُوقِفُ القطار أحيانا خلال سيره على القضبان.
يحرص بعض ركاب القطار على شراء احتياجاتهم من البائعين المتجولين
لكن المشهد يبدو مختلفا على نحو مدهش مع شروق الشمس. فالناظر وقتها يرى الضباب وقد غشى غابةً معتدلة المناخ، بينما يمضي القطار في مسارات ملتوية حول تلالٍ شديدة الانحدار، وعبر أودية سحيقة.
فخلال الليل، كان القطار قد مضى صاعدا إلى ارتفاعٍ بلغ نحو 600 متر، أثناء سيره باتجاه المنطقة المعروفة باسم “وادي الصدع العظيم”.
وكانت مرحلة مد الخط الحديدي إلى هذه المنطقة قد شكلت أصعب تحدٍ واجه المهندسين المسؤولين عن المشروع، فقد أدى ذلك إلى أن يفجر العمال فجواتٍ في أضخم الجبال الموجودة هناك، باستخدام الديناميت.
ولإدراك أهمية هذا الخط الحديدي، يتعين علينا العودة إلى الوراء قليلا، تحديدا إلى عام 1964 حين حصلت زامبيا، وهي الدولة الحبيسة (التي كان يُطلق عليها آنذاك اسم روديسيا الشمالية)، على استقلالها من بريطانيا، واستعادت السيطرة على ثرواتها المعدنية.
لكن جارتها روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليا) اتخذت موقفا عدائيا منها، وفرضت رسوما باهظة على النحاس الذي يُنقل إلى الموانئ الجنوبية لأفريقيا. فباسم نشر الاشتراكية في مختلف ربوع أفريقيا، اتفق الرئيسان نيريري وكاوندا على مد خط سكك حديد “أوهورو”، وتمهيد الطريق أمام زامبيا لنيل حريتها الاقتصادية على صعيد نقل منتجاتها عبر الطرق المؤدية إلى الشمال.
وقد عرض الزعيم الصيني – في ذلك الوقت – ماو تسي تونغ قرضا قيمته 400 مليون دولار لمد هذا الخط. ولم يلبث أن تدفق عشرات الآلاف من عمال السكك الحديدية الصينيين على شرق أفريقيا، للمشاركة في هذا المشروع، الذي كان أول مشروع هندسي كبير من نوعه للصين في القارة الأفريقية.