هو أحد آخر ثلاثة حمّامات عامة بقيت في البصرة وأقدمها على الإطلاق، إذ يعود زمن إنشائه إلى أكثر من مئة عام، منسيٌ في سوق العشّار القديم تحاصره وتخفيه محال باعة البهارات والأعشاب وحشود المتسوّقين.
يعرف الضابط المتقاعد سلمان الهزّاع (65 عاما) سبيله جيدا في الوصول إلى الحمام العثماني رغم وقوعه بين الدكاكين المتلاصقة، وهو يأتي مرتين أسبوعيا، كما يقول، ويمرّ تحت لافتته الملوّنة التي تحمل اسم “الحمّام الحسيني”.
ينزل سلمان الدرجات إلى باحة منخفضة ممّتدة ينحني فوقها سقف عتيق مقبّب معقود من الآجر وتتوسطه كوى يتسلل الضوء منها، يلقي التحيّة على صاحب الحمّام علي عبدالحسين العبادي.
إنهما صديقان وبسن متقاربة، جمعت بينهما محبّة الاستحمام، كما يقول الهزّاع الذي يُبادر بالكلام بصوت قوي، “أقول لك شيئاً، أنا مدمن على الحمام. لا يريحني حمّام البيت الحديث، أتصل بالدلّاك قبل يوم للاتفاق على الموعد، لا استمتع ولا أسترخي إلا في هذا المكان تحت يد المدلك”.
يؤيد صاحب الحمّام كلامه قائلا، إن الاستحمام يريح النفس ويعدل المزاج وفيه فوائد صحيّة. ويطلق حسرة، فالناس لم تعد تعرف قيمة الحمامات العامّة، ويضيف لموقع “نقاش”، حول ذلك “لم يعد عملنا جيدا كما في العقود الماضية، بالكاد يزورنا أربعة أو خمسة أشخاص يوميا، كما أن الكثيرين لا يعلمون بوجود الحمّام”.
يقول العبادي، إن بناء الحمّام الحسيني يعود إلى أواخر العهد العثماني وهو ما كان يستدل عليه من وجود علامات على الآجر القديم مثل الهلال والنجمة والتاج وعلامات وتواريخ أخرى زالت تماما بسبب تعرض الحمام للحرق خلال انتفاضة 1991 والفوضى التي رافقتها.
ويضيف، “أنشأ الحمّام كما تذكر الوثائق القديمة أحد أجداد الحاج عبدالرزاق السبتي الذي كان يعيش في تركيا واستلهم الفكرة من الحمامات التركية. ثم جرى بيعه لجدنا حاج صالح هاشم وانتقل للوالد حتى انتهى إليّ وما زلت محافظا عليه”.
اندثرت حمامات عامة كثيرة في البصرة بعضها يعود للعصر العباسي، وفي التسعينات من القرن الماضي انتقلت ملكيّة الحمّام الحسيني لبلدية البصرة بهدف ضم منطقته إلى جزيرة الدوكارد المقابلة وجعلها منطقة سياحية، غير أن الفكرة لم تنفّذ، وقد انتبهت له مديرية الآثار في ذلك الوقت، وطالبت بالإبقاء عليه كإرث معماري، لكن قد يأتي يوم يزال من الوجود، كما يقول العبادي.
وعن دور الحمّامات سابقا في البصرة، يقول العبادي، “كان للحمامات دور اجتماعي مميز، فالبيوت لم تكن مزوّدة بالحمامات والسخانات الكهربائية الحديثة. ولعدم توفر الكهرباء آنذاك كان يستخدم المنفاخ لإيقاد النار وبقايا حصيد الحنطة كوقود”.
وفي الستينات من القرن الماضي وخلال الأعياد والمناسبات الأخرى وأيام الجمع، كنّا نجهّز أنفسنا ونجلب دلّاكين وعمالا إضافيين لمساعدتنا، إذ يبدأ عملنا في الخامسة صباحا لاستقبال زخم المستحمين. كنا ننفق عشرة براميل نفط يوميا، كما أزدهر عملنا خلال الحرب العراقية الإيرانية بالثمانينات بسبب حاجة الجنود للاستحمام”.
يتحدث الضابط المتقاعد سلمان الهزّاع عن اليوم الذي وقع فيه بغرام الحمّام قائلا، إنه “في الثمانينات ألزمنا صدام حسين بالرشاقة وتخفيف الوزن والاحتفاظ بشكل رياضي متناسق، أصبحت البدانة تعيق الترقية في سلم الرتب العسكرية”.
ويضيف “كنا نجوّع أنفسنا كثيرا، ثم أرافق البعض من الزملاء إلى الحمّام الحسيني ونمارس تمارين الهرولة والتعرّق داخل الحمّام، والخضوع للتدليك على أيدي دلاكين أشدّاء طيلة أيام، كي نتخلص من بعض الوزن، ومن حينها لم أعد استطيع مفارقة الحمّام”.
يبحث الهزّاع عن المدلك خشّان نجم عبدالله، وهو الأقدم، يبدو نحيفا في السبعين، إلا أنه ما زال يحتفظ بصلابته، وهو يقول “إن عمل الدلّاك يتلخص بتنظيف المستحم ومعالجة التشنجات وآلام الظهر وعرق النسا إذا اقتضى الأمر”.
الخشّان من رعيل الدلاكين القدامى، يقول عن سبب تمسكه بعمله الذي لم يعد يدر شيئا يذكر “لا أحب التكاسل في البيت فهذا يورث العلل، لذلك أجيء للعمل في الحمّام وأرى أصحابي، وفي أفضل الأحوال لا أحصل على أكثر من ثلاثة زبائن يوميا”.
ويضيف موضحا طبيعة عمله، “بقدر ما يكون الدلّاك قويا يمتاز بالرقة أيضا وعلى سبيل المثال معرفته بكيفية استخدام كيس الصوف للتنظيف، ونسميها سحبة الكيس دون أن يستخدم القوة المفرطة فيجرح جسم المستحم ودون أن يلين كثيرا فلا يجني فائدة. كما أننا نستخدم الحناء مخلوطة بخل التمر لمداواة من يشكون الصداع بوضع الخليط على رؤوسهم مدة ساعتين وأساليب أخرى للعلاج القديم”.
داخل قاعة الاستحمام الدائرية التي تتوسطها دكة مستديرة ساخنة وتحيطها إيوانات قديمة مقوّسة للخلوة والاغتسال، يتعرّق بدر عبدالله (50 عاما) ويعمل نجّارا، والذي يشير إلى أن نسبة البخار قليلة لكنها كافية.
يتذكر عبدالله الحمّام في أوقات الثمانينات، ويقول عن ذلك “من شدة الحرارة لم نكن نستطيع تحمل الوقوف على الأرض دون لبس القبقاب وكان يتم تناول شراب الدارسين بعد الاستحمام خلال الاستراحة. كانوا يستخدمون دارسين عيدان أصلي ويضيفون له عرق حار لمقاومة الإصابة بالبرد”.
يتذكر بدر حادثة وقعت له ليلة عرسه قائلا، “كان من المعتاد أن يأتي العرسان قبل ليلة الدخلة أي في ليلة الحناء للاستحمام وتهيئة أنفسهم ويرافقهم أقرباؤهم وأصدقاؤهم للاحتفال ويجلبون معهم الكباب والفاكهة لتناولها بين فترتي الاستحمام”.
ويقول، “في يوم زفافي أردت رفع الشعر من جسمي ولم أكن املك الخبرة، فأخذت مزيل شعر وجعلته على شكل سائل رائب دهنت به المواقع الحساسة بجسمي، وكان يفترض استخدامه في مناطق الجسم الجافة”.
ويضيف، “لم أكن أعلم أن المادة مخلوطة بالزرنيخ، وقد تباطأت بإزالة المادة، وبعد دقائق اغتسلت بالماء الحار فشعرت فورا بحريق يلتهم جسدي، كان مؤلما لدرجة كبيرة فبدأت بالصراخ فزعا والركض عاريا في الحمام، تلك الحادثة أرجأت زواجي أسبوعين”.
يتذكر العبادي الحادثة وينطلق ضاحكا، “كان بدر شابا وقد أرعبنا منظره وهو يقفز هنا وهناك عاريا ثم أدركنا القصة فأسرع أبي إلى جلب (طين خاوه) من العطارين وعجنه وكسا به جسمه وجعلناه يرقد في مكان بارد”.
في السبعينات من القرن الماضي شهد حمّام الحسيني قدوم بعض محافظي البصرة مثل محمد محجوب للاستحمام، كما استقبلوا الرياضيين وبعض لاعبي المنتخب الوطني لكرة القدم وكمال الأجسام.
وما زال قبو المواقد الكبيرة في موقعه تحت قاعة الاستحمام مهجورا تغمره المياه الجوفية. يقول العبادي إنه لا يعرف صنعة أخرى غير هذه، وهي في طريقها إلى الزوال ويختم كلامه بابتسامة “كان جدّي يردد مثلا يقول: خُذ من الحمام عرقه ومن الفجل ورقه”.